ألفية الطواحين لتوليد الكهرباء

ألفية الطواحين لتوليد الكهرباء

ظهيرة باردة ومظلمة في يوم من أيام يناير 2013  ، وصلت عاصفة من بحر الشمال إلى المملكة المتحدة. وبدأت طواحين الهواء تدور وتشتد سرعتها أكثر وأكثر، لتتولد عنها طاقة أكبر وأكبر ثم توقفت فجأة حين وصلت سرعة الرياح إلى المستوى الذي يتوقف عنده الإنتاج تلقائيا بفعل نظم الأمان. وهكذا، هبط إنتاج الطاقة من الحد الأقصى النظري إلى مستوى الصفر في غضون ساعات. لكن أحدا لم يلاحظ ما حدث. فلم تصدر الصحف بعناوين تتحدث عن غرق لندن في الظام. واستجاب النظام على النحو الذي صُمِّم من أجله — فبدأ بخفض إنتاج الطاقة المولدة بقوة الغاز وسرعان ما زادها من جديد. ولم يقتصر مفعول هذا التحول السلس بين مصادر الطاقة على مجرد الحفاظ على الإنارة. فقد قدم لمحة عما يتوخاه صناع السياسات لمستقبل الطاقة منخفضة الكربون في أوروبا. إنه مستقبل واعد إلى أبعد الحدود، ولكنه لا يخلو من المزالق أيضا، حيث تسعى أوروبا إلى خفض انبعاثات الكربون بحلول عام 2050 بنسبة تتراوح بين 80 و 95 % مقارنة بالمستوى المسجل في عام 1990 . ويعني ذلك أن 80 % أو أكثر من الكهرباء المولدة في الاتحاد الأوروبي يجب أن

يأتي من الرياح والشمس وغيرها من المصادر غير الكربونية. ومن الغايات المرحلية في هذا الصدد، والتي اقترحت في يناير 2014 وهي الآن قيد النظر في المفوضية الأوروبية، أن يتم خفض انبعاثات الكربون بنسبة 40 % عن المستوى المسجل في عام 1990 بحلول عام2030 .

الغايات طموحة، و تحقيقها يحتاج لانطلاقة نوعية : 

الغايات طموحة، وسيكون تحقيقها صعبا. فعند مقارنة أوروبا بالولايات المتحدة الأمريكية والصين، نجد أن مستويات انبعاثات الكربون منخفضة بالفعل، مما يعوق التوصل إلى حلول سهلة لتخفيضها . ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يساهم الفحم بأكثر من 40 % من الكهرباء المولدة، بينما يقوم عليه توليد أكثر من 75 % من الكهرباء في الصين .  وبعملية بسيطة لإحلال الفحم بغاز طبيعي محترق أنظف بكثير في أي من البلدين، يمكن تحقيق خفض كبير في انبعاثات الكربون )رغم استمرار الصين في زيادة طاقتها الكهربائية القائمة على الفحم بنسبة تزيد بكثير على مصادر الطاقة الأخرى(.  ولكن الفحم في أوروبا يمثل 28 % فقط من الكهرباء المولدة، بينما يأتي 38 % من الكهرباء من المصدرين النووي والمائي اللذين لا يصدران أي انبعاثات كربونية.  ولذلك فإن إحلال الغاز محل الفحم لن يفيد كثيرا في خفض انبعاثات الكربون في أوروبا. وحتى لو حل الغاز محل كل الفحم المستخدم في جميع عمليات توليد الكهرباء، فسيظل قطاع الكهرباء مصدرا لأكثر من ضِعف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يستهدفها الاتحاد الأوروبي. يعني هذا أن الأهداف الطموحة لخفض انبعاثات الكربون لا يمكن أن تتحقق إلا بتعميم مصادر الطاقة منخفضة الكربون على نطاق واسع. وسيتعين اعتماد هذا التوجه في الوقت الذي تقوم فيه أوروبا بإحلال الطاقة النووية المركبة في الستينات والسبعينات. ومع المشكلات التي تكتنف مستقبل توليد الطاقة النووية في أوروبا، سيتعين توجيه جزء كبير من الاستثمار اللازم لتحقيق هدف خفض الانبعاثات الكربونية إلى المصادر المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية التي تقدم الحكومات الأوروبية دعما لتطويرها حاليا.

إلا أن الشمس لا تستطع في بعض الأيام، كما أن الرياح لا تهب في أيام أخرى. أو أن الرياح تكون عاتية في بعض الأحيان، كما حدث في إنجلترا في عام 2013 . ولكن الحقائق الجغرافية الأساسية — مثل تغير مقدار الرياح وسطوع الشمس — لا تتغير. وهنا سيكون للغاز دور يؤديه بأن يساهم في الحفاظ على تشغيل آمن واقتصادي لنظام الكهرباء الأوروبي الذي يعتمد اعتمادا متزايدا على المصادر المتجددة. ويتعين على أوروبا أن تضع سياسات للطاقة تعمق تكامل أسواق الكهرباء ونظم تشغيلها وتنظيمها. وكما تشير حادثة لندن، سيعتمد نظام الكهرباء على الاستخدام الرشيد للغاز الطبيعي للمحافظة على الإنارة عندما لا تستطيع المصادر المتجددة تحقيق ذلك.

المعرفة و الدراية الفنية تخدم الانطلاقة  

في العقد الماضي، كان تراكم الدراية الفنية مبهرا فيما يتصل بتشغيل نظام الكهرباء بنسب عالية من الطاقة المتجددة. والآن، أصبح إنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في بعض البلدان الأوروبية يزيد عدة أضعاف على ما كان متوقعا في البداية. ويمكن القول بأن هذا التحسن في المعرفة بالنظم لا يقل أهمية عن التقدم التكنولوجي الكبير في مجال إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ،على أقل تقدير. ولبلوغ هذه الغايات الطموحة، يتعين على صناع السياسات إنجاز ما يلي:

إنشاء سوق واحدة للطاقة في الاتحاد الأوروبي: رغم صدور تصريحات مسجلة تؤيد السوق الواحدة، فلا يزال عدد كبير من البلدان الأوروبية يتبع سياسة الاكتفاء الذاتي في الطاقة، وهو ما يتعارض مع التطور صوب إنشاء سوق موحدة تتيح تدفق الكهرباء المولدة بالطاقة الشمسية من ألمانيا لتشغيل أجهزة التدفئة الكهربائية في باريس، كما حدث عند وقوع موجة باردة في عام 2012 .

إنشاء سوق عقلانية للغاز الطبيعي: يجب أن يكون الغاز هو الوقود الاحتياطي الذي تلجأ إليه المرافق لتوليد الكهرباء عندما تتعثر مصادر الطاقة المتجددة. وحتى في ظل أكثر الافتراضات تفاؤلا، ستظل محطات الطاقة التقليدية ضرورية لتوفير إمدادات الكهرباء لعقود قادمة. وحتى لو لم تكن هناك قيود سياسية على إنشاء المحطات النووية، فإن تكلفتها أعلى من أن تستخدم كمصدر احتياطي للإنتاج. ولما كانت انبعاثات الفحم أكبر من انبعاثات الغاز بمقدار الضِعف، نجد أن الغاز الطبيعي هو البديل الأقل إصدارا الانبعاثات الكربونية. ويمكن أن تولد توربينة الغاز الحديثة وحدات قدرة تتراوح بين صفر ومليون حصان في الساعة الواحدة، وتعود إلى التوقف حسب الحاجة بكفاءة مذهلة. ويمكن أن توفر المحطة الواحدة طاقة. احتياطية مرنة لعدد 600 توربينة رياح كبيرة. وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة إلى أن نظام الطاقة في الاتحاد الأوروبي إذا خا من الانبعاثات الكربونية، فسوف تعمل طاقة الغاز الهائلة في المنطقة لمدة 3.5 ساعة فقط يوميا في المتوسط لملأ الفراغ الذي يسببه اضطراب الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو أشكال الطاقة الأخرى المطلوبة نتيجة لظروف الطقس. وفي بعض الأحيان، تتوقف توربينات الغاز لعدة أيام؛ وأحيانا تضطر إلى العمل من الصفر إلى أعلى طاقة لها ثم تعود إلى الصفر عدة مرات يوميا. ولكن هذه ليست الطريقة التي تستخدم بها محطات الغاز في نظام تهيمن عليه الطاقة التقليدية، حيث تعمل عادة لفترة تتراوح بين 10 و 12 ساعة يوميا وتخفض الإنتاج أو تتوقف عن العمل ليلا ، وقد أدى الركود الذي تشهده منطقة اليورو إلى خفض الطلب على الطاقة والتعجيل بالتحول إلى مستوى استخدام منخفض أو متنوع في أوروبا، لكن تصميم أسواق الكهرباء لم يواكب هذا التحول، مما أثار القلق بشأن الاستثمارات العالقة. ويجب أن تعيد أوروبا النظر في تصميم أسواق الكهرباء وإقامة بنية تحتية مرنة للغاز يكون بمقدورها التعامل مع التقلبات السريعة في الطلب وتمتلك طاقة لتخزين الغاز وإرساله بطريقة شبه فورية. وهي بحاجة أيضا إلى أسواق فورية تتسم بالكفاءة والسيولة ويمكن أن تحصل المرافق فيها على احتياجاتها من الغاز في وقت قصير. كذلك تحتاج أوروبا إلى خطوط نقل جديدة ومصادر آمنة لأنواع الوقود عالية التكلفة، ويجب أن تطور مصادر للطاقة عندما يكون كل ما تستطيع أن تضمنه لمنتجي الغاز هو الطلب المتغير اعتمادا على الإنتاج المتقلب للطاقة الشمسية وطاقة الرياح وعلى التغيرات في استخدام المستهلك.

تحسين كفاءة تكلفة المصادر المتجددة للطاقة: تقدم الحكومات الأوروبية في الوقت الراهن دعما لتطورات مصادر الطاقة المتجددة على أساس أنها صناعات وليدة تحتاج إلى المساعدة للوصول إلى وفورات الحجم التي يتمتع بها منافسوها. ولكن في بعض الحالات، أدى الإفراط في تقديم الدعم إلى نشأة فقاعات استثمارية فيما يتعلق باللوحات الشمسية على سبيل المثال. وفي حالات أخرى، لم تراعي سياسات الطاقة كل الظروف الجغرافية والتطورات التي تشهدها التكنولوجيا. ونظرا لأن دعم الطاقة المتجددة يختلف باختلاف البلدان والتكنولوجيات، نجد أن هناك أكثر من 3000 سعر مدعم لنفس السلعة الأولية، وهو ما يشوه الاستثمار. وغالبا ما تُبنى طواحين الهواء ومزارع الطاقة الشمسية حيثما يكون الدعم جذابا وليس في الأماكن التي تكون فيها الرياح قوية أو الشمس ساطعة ووصات البنية التحتية معقولة التكاليف.

إجراء إصلاح شامل في تصميم أسواق الكهرباء: أصبح إنتاج بعض البلدان الأوروبية من طاقة الرياح والطاقة الشمسية أضعاف ما كان متوقعا في البداية، وانخفضت تكاليف التكنولوجيا وكلاهما تطور إيجابي. إلا أنه لا يوجد حل سحري للتعامل مع ما يترتب على ذلك من تقلب في توليد الطاقة. فطوال قرن كامل، كان تخطيط صناعة الكهرباء يتم على جانب العرض، حيث يستخدم المستهلكون ما يشاءون وقتما يشاؤون ويقوم النظام بتلبية الطلب. ويفتقر هذا المنهج للكفاءة حتى في النظام التقليدي، ومن ثم فإن تكلفته لا يمكن تحملها في النظام القائم على طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وبإمكان أوروبا أن تتبع مناهج أكثر تركيزا على جانب الطلب. فإقناع مليون عميل بإغلاق أجهزة التكييف لفترة وجيزة يحقق نفس النتيجة التي يحققها بناء محطة طاقة احتياطية بمليار دولار. وقد كان هذا المنهج وسيلة للتشغيل الآمن لنظام الكهرباء في اليابان بعد فقدان القدرة على توليد الطاقة النووية. وهناك منهج آخر هو تحقيق التكامل السلس بين أسواق الكهرباء، حيث تزداد سيولة التجارة في الكهرباء عبر القارة الأوروبية، بالاستفادة من اختلاف ذروة الطلب في البلدان المختلفة. وبوجه عام، تقل ذروة الطلب الأوروبي بمقدار 30 غيغاوات عن مجموع ذرى الطلب الوطنية في أوقات مختلفة   أي ما يعادل احتياجات بلد متوسط الحجم من الكهرباء. وفي أوروبا الشمالية، يبلغ الطلب ذروته في الشتاء؛ وفي أوروبا الجنوبية، يصل إلى الذروة في الصيف. ويمكن أن تؤدي التدفقات بين الشمال والجنوب إلى تحسن كبير في الكفاءة.

لكن نظام نقل الطاقة في أوروبا لا يزال غير جاهز لكي يعمل بصورة متكاملة ويدعم سوقا للطاقة منخفضة الكربون. فا يزال التقدم بطيئا في توسيع طاقة النقل إذ لا يكاد ينشأ خط جديد للنقل إلا واجه مقاومة محلية شديدة. ورغم أن بعض العقبات يمكن التغلب عليها، فستظل طاقة النقل موردا شحيحا. وعاوةً على ذلك، لا تزال طاقة النقل منظمة على المستوى الوطني. ويجب أن تكون هناك إمكانية لتدفق الكهرباء بسهولة عبر الحدود الوطنية في أوروبا. ومع وجود شبكة نقل أقوى بكثير من الشبكة الحالية حتى تربط بين مختلف مناطق أوروبا وتتيح أسواقا متكاملة يمكنها الاستجابة لتغيرات الطقس بشكل فوري، يمكن في النهاية أن يزداد إنتاج أوروبا من طاقة الرياح والطاقة الشمسية بمقدار أربعة أضعاف ليزيد على 100ألف طاحونة هواء جديدة ونصف مليار لوحة شمسية. وسيأتي هذا المستقبل منخفض الكربون بتكلفة أعلى — ولكن مقدار ارتفاع التكلفة يعتمد على اتخاذ أوروبا خطوات لتحويل مشهد الطاقة الأوروبي، بوضع سياسات تدعم الغاز الطبيعي كوقود تأميني » مع خفض تكاليف مصادر الطاقة المتجددة، وتحسين نقل كل من الغاز والكهرباء، وتفتيت الحواجز الوطنية. ويمكنها، بالطبع، إرجاء اتخاذ أي أجرا.