شهد العقد الماضي زيادة حادة في الأسعار العالمية للنفط الخام ومنتجات الهيدروكربون والمعادن. فقد ارتفعت
أسعار المعادن بنسبة 66 % والنفط الخام بنسبة 159 % واكتُشفت مستودعات رئيسية للموارد الطبيعية في عدد من البلدان النامية، حيث اكتُشف الذهب في بوركينا فاسو، والبترول في سواحل غانا، والنحاس والذهب والفحم في منغوليا. ويتوقع كثيرون أن يتحقق النمو تباعا. وإذا كانت المؤسسات في هذه البلدان سليمة وتم استثمار الموارد محليا في البنية التحتية والصحة والتعليم، يكون الافتراض أن النمو سيتحقق. إلا أن لعنة الموارد الطبيعية القديمة - مفارقة أن البلدان والمناطق التي توجد فيها وفرة من الموارد الطبيعية غالبا ما تحقق معدلات نمو اقتصادي أقل وتكون نتائجها الإنمائية أسوأ من البلدان والمناطق التي توجد فيها مقادير أقل من الموارد الطبيعية - تلقي بظلالها على هذا التفاؤل. وقد كانت التوقعات مرتفعة أيضا في السبعينات، ومع ذلك حققت البلدان الغنية بالموارد الطبيعية نموا أقل بكثير من بلدان أخرى خلال السبعينات والثمانينات. ومهما تكن جاذبية رؤية الانتعاش الذي تقوده الموارد الطبيعية ، فإنه يثبت للأسف أن هذه الرؤية عصية على التحقيق. ويكمن مفتاح فهم الاتجاهات العامة الأطول أجلا في النظر إلى الاقتصاد خارج قطاع الموارد الطبيعية. وعلى الرغم من إيجابية معدلات النمو بوجه عام، فإن معدلات النمو الأساسية غير المتصلة بالموارد الطبيعية أقل بكثير. وبالرغم من ذلك، فإن التشاؤم ليس هو الاستنتاج الصحيح. ومن المؤكد أن بعض المشكلات المرتبطة بوفرة الموارد لها جذور في القوى الاقتصادية الأساسية التي لا تسيطر عليها البلدان إلا بصورة محدودة. إلا أن هناك أمورا كثيرة تخضع بالتأكيد لسيطرة هذه البلدان، وعلى رأسها القرارات المتعلقة بالاستثمار العام. وبالنظر إلى استمرار ضعف أداء الاستثمار العام وانعدام كفاءته في كل من الاقتصاديات الغنية بالموارد الطبيعية والاقتصاديات الفقيرة فيها، فإنه يرجح أن يكون هناك مجال للتحسين وفرصة للتصدي لأي قوى أخرى ترتبط بثروات الموارد الطبيعية الكبيرة. إلا أن القيام بذلك يقتضي من الحكومات إحداث تغيير جوهري في طريقة صنع هذه القرارات.
اللعنة لا تزال مستمرة
ثمة جدل ساخن حول ما إذا كانت لعنة الموارد الطبيعية لا تزال قائمة. ويرى البعض أن هذه اللعنة قد انتهت، مشيرين إلى سرعة نمو الاقتصاديات الغنية بالمعادن، مثل غانا التي حققت في عام 2012 معدل نمو قدره 7.1 % ومنغوليا 12.3 % وبوركينا فاسو 6.4 % والإمارات العربية المتحدة 4.4 %. إلا أن هذه النسب مشوهة نتيجة لطفرة قطاع الموارد. والقياس الأفضل لما إذا كان الاقتصاد يبني قدراته على النمو بعد انتهاء الطفرة هو النشاط الحادث في بقية قطاعات الاقتصاد. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، كان نصيب الفرد من النمو الحقيقي في منغوليا في القطاع غير المتصل بالموارد صفرا بالأساس، عند مستوى 0.23 % سنويا. أما غانا فإن أداءها أفضل، عند 4.2 %؛ إلا أن الإمارات العربية المتحدة شهدت معدلات سالبة )- 3.4 %( بينما شهدت بوركينا فاسو معدلات سالبة أو نموا ضعيفا 1.9 %(. ولا تمثل ظاهرة بطء النمو المذكورة في الجزء غير المتصل بالموارد في الاقتصاد، حتى أثناء فترات الطفرات، خروجا عن العادة فهناك دراسة حول 20 اقتصادا غير الاقتصاديات المذكورة أعلاه وخلصت إلى أن 3 اقتصاديات فقط من إجمالي 20 اقتصادا - أنغولا وغينيا الاستوائية وموزامبيق - حققت معدلات نمو موجبة كبيرة. ومن الاقتصاديات المتبقية، حقق 13 اقتصادا نموا سالبا في الجزء غير المتصل بالموارد من الاقتصاد. وتتحدى هذه النتائج النماذج الاقتصادية شائعة الاستخدام التي تفترض أن البلدان ستنمو تلقائيا متى زاد الاستثمار الرأسمالي العام. ومن المؤكد أن الاستثمار الرأسمالي العام زاد في الاقتصاديات التي تشهد طفرات، إلا أن بيانات نمو إجمالي الناتج المحلي تشير إلى عائدات سالبة. فعلى الرغم من ضخامة الإيرادات المتأتية من الموارد وحجم الاستثمار المحلي الكبير خارج قطاع الموارد الطبيعية، لا يزال النمو مخيبا للآمال في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية. وسيقول البعض إننا بحاجة إلى مرور مزيد من الوقت، إلا أن سجل البلدان التي شهدت طفرات منذ سنوات كثيرة لا يقل إحباطا. فبعد طفرات كبيرة غير متوقعة في إيرادات النفط أو الغاز في السبعينات في الجزائر وغابون والكويت وليبيا والمملكة العربية السعودية ، لم يكن النمو في القطاع غير المتصل بالموارد مثيرا للإعجاب. وغالبا ما تذكر شيلي وإندونيسيا والنرويج وبوتسوانا كأمثلة تدحض فكرة أن كثافة الموارد تضر بالنمو. إلا أن شيلي وإندونيسيا والنرويج ليست في نفس قارب الاقتصاديات الغنية بالموارد المعدنية في الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد تقلبت حصص شيلي والنرويج في حدود 10 %، ورغم أن حصة إندونيسيا من الموارد بلغت مؤقتا 20 % في الثمانينات، فقد ظلت بعيدة عن حصص المملكة العربية السعودية 68 % في عام 1976 وقطر 62 % وليبيا 71 % في عام 2006 . أما بوتسوانا فإنها حالة خاصة. فحتى منتصف التسعينات، لم يكن النمو خارج قطاع الموارد المعدنية سريعا بوجه خاص. وكان إنتاج الماس قد زاد بدرجة كبيرة إلى حد أن الزيادة البالغة 70 % التي حققتها بوتسوانا في إجمالي الناتج المحلي في الفترة بين عامي 1970 و 1996 كان فضلها يعود إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي المتولد عن الماس فقط. ومنذ عام 1996 ، استمر الاقتصاد ينمو بسرعة، حتى أصبح واحدا من البلدان القلائل الغنية الموارد المعدنية التي تبدي نموا سريعا بعد حدوث طفرة في الموارد الطبيعية.
والتفسيران الرئيسيان لبط نمو الاقتصاديات شديدة الاعتماد على الموارد الطبيعية هما ضعف المؤسسات و »المرض الهولندي » — الآثار الضارة للزيادات الكبيرة في دخل البلد المرض الهولندي: إدارة الثروات بغير حكمة، » ولكن لا يفيد أي من التفسيرين بشكل خاص في اقتراح حلول. وإحدى مشكلات التفسير الأول هي فرط اتساع مفهوم المؤسسات. فعبارة «ضعف المؤسسات يمكن أن تعني أي شيء، بدءا بعدم كفاية وضوح القوانين أو إنفاذها وانتهاء بتراخي الإدارة وضعف الضمانات الوقائية لمنع الفساد أو ضعف السياسات الاقتصادية. ومن ثم تكون مشورة السياسات عامة بدرجة مفرطة. ورغم أن كثيرين ممن يذكرون ضعف المؤسسات يقصدون عدم كفاية الضمانات الوقائية لمنع الفساد، فإن الاستيلاء مباشرة على ثروة الموارد الطبيعية لا يمكن أن يفسر وحده النمو السالب في النشاط الاقتصادي المشاهد في بعض الاقتصاديات شديدة الاعتماد على الموارد. أما المرض الهولندي — وهو تفسير ثان تدعمه شواهد كثيرة لبطء نمو الاقتصاديات شديدة الاعتماد على الموارد — فيحدث عندما تؤدي طفرات الموارد إلى زيادة الطلب على نحو يرفع الأسعار ويضر بنمو الشركات التي تستخدم تلك المنتجات كمدخلات للتصدير. ولا يزيد عدد الاقتصاديات شديدة الاعتماد على الموارد التي تمكنت من تنمية صادراتها غير المتصلة بالموارد على بضعة اقتصاديات؛ ولا يزيد عدد البلدان النامية التي نمت بسرعة دون تحقيق نمو كبير في الصادرات خارج قطاع الموارد الطبيعية على بضعة بلدان. ورغم أن البلدان تستطيع تخفيف حدة الزيادة في الطلب التي هي أصل المرض الهولندي – مثلا بإنفاق إيرادات الموارد على سلع أجنبية - فإنه من غير المرجح أن تفلت منه تماما. ويرجح أن يستمر المرض الهولندي يصيب البلدان الغنية بالموارد الطبيعية. وبخلاف تخفيف حدة آثار المرض الهولندي من خلال ضبط الإنفاق،يطرح غالبا خياران على مستوى السياسات لمواجهة لعنة الموارد وتعزيز النمو، أحدهما هو الاستثمار في أصول خارجية والآخر الاستثمار في السلع الرأسمالية العامة في الاقتصاد المحلي.ويتوقف تحديد أي الخيارين بصورة حاسمة على العائد الحقيقي على الاستثمار العام المحلي، فكلما ارتفع العائد على رأس المال العام من حيث النمو الاقتصادي المحلي، زادت جاذبية هذا الخيار مقارنة بالاستثمار الخارجي. ففي المكسيك ارتفع الاستثمار العام من 4.9 % من إجمالي الناتج المحلي إلى 10 %بين عامي 1971 و 1980 . وقامت كل البلدان التي شهدت طفرات في الموارد الطبيعية تقريبا بزيادة الاستثمار الرأسمالي العام. ومن الأمثلة البارزة على ذلك المملكة العربية السعودية التي قامت بتوسيع طاقة الموانئ البحرية وتوليد الكهرباء ورصف الطرق السريعة وبناء مطارات دولية جديدة كبرى. وأيا كانت الإنجازات الأخرى التي حققتها الاستثمارات - في المملكة العربية السعودية، مثلا، تحسنت مؤشرات الصحة والتعليم بصورة ملحوظة فقد أخفقت في تعزيز النمو الاقتصادي على المدى البعيد. فنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي خارج قطاع الهيدروكربونات في المملكة العربية السعودية لم ينمو بسرعة. وفي المكسيك والفلبين، تلت حملات الاستثمار العام التي نفذتها البلدان في السبعينات فترات من هبوط النشاط الاقتصادي في الثمانينات. ويرى البعض أن استثمارات الدولة في البنية التحتية عجل وتيرة التنمية في الاقتصاديات سريعة النمو مثل كوريا ومقاطعة تايوان الصينية. ولكن في كل من هاتين الحالتين، لم تكن حملات الاستثمار العام تقود عملية النمو وإنما بدأت بمجرد أن كان النمو قيد الحدوث بالفعل. ففي كوريا، أعلن الرئيس بارك شونغ-هي برنامجا رئيسيا للطرق السريعة في عام 1967 ، بعد أن كان البلد قد بدأ ينمو بسرعة في أوائل الستينات. وفي مقاطعة تايوان الصينية، بدأت حملة «مشاريع التشييد العشرة الكبرى » في عام 1973 ، بعد أكثر من عقد من قيام ذلك الاقتصاد بتحقيق نمو سريع للمرة الأولى.
طريق النجاح
بوجه عام، يصعب العثور على أدلة قاطعة على أن حملات الاستثمار العام ستسفر عن مردود إيجابي. وهناك أمثلة كثيرة لبلدان تمتعت بطفرات للموارد الطبيعية وشرعت في تنفيذ حملات للاستثمار العام ولكن لم تحقق سوى نجاح ضئيل على المدى البعيد. وهناك أيضا أمثلة لحملات للاستثمار العام لم تمولها طفرات الموارد كان تأثيرها محدودا. ومن الواضح أن الأمر واحد من اثنين: إما أن عائدات الاستثمار الموجبة غير موجودة، رغم الادعاءات بعكس ذلك، أو أن الحكومات لا تقوم بتحديد الاستثمارات ذات الكفاءة أو تنفيذ سياسات فعالة. فما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف الاستثمارات العامة والأسس التي تستند إليها خيارات السياسات في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية؟ يرى المختصين في هذا الشأن أن عملية صنع القرارات الاقتصادية افتقرت إلى العقلانية بصورة شبه تامة أثناء حملة الاستثمارات العامة في بوليفيا. وتشير الدراسة إلى أن شيوع حالة عامة من التفاؤل المفرط في الافتراضات والتقديرات بشأن المنافع، وعدم جدية تحليل التكاليف والمنافع، وشيوع استخدام أهداف غير اقتصادية مثل المكانة أو الأمن القومي لتبرير الاستثمارات. وكانت الحكومة البوليفية متجزئة، ويعمل كل فصيل فيها على حماية استثماره المفضل، مع عدم وجود هيئة مركزية لمقارنة الاستثمارات البديلة واختيار الأكثر فعالية منها. ويتضح من هذا السرد موضوع نشوء الأخطار التي تتهدد السياسات الجيدة. فعندما توجد على المائدة نقود كثيرة، تكون سياسة الاستثمار الحكومي معرضة بشكل خاص لخطر اصطيادها من قبل جماعات المصالح. والجماعات صاحبة النفوذ - شركات التشييد، والخبراء الاستشاريون، وتقريبا أي أصحاب مصالح تجارية مرتبطة بالاستثمارات هي الجماعات التي تستفيد من مجرد تنفيذ الاستثمارات بغض النظر عن قيمتها الاجتماعية. ويمارس أصحاب المصالح السياسية والإقليمية ضغوطا مكثفة لتبرير استثماراتهم المفضلة. وتظهر ثقافة دعوية تشوه التحليل الموضوعي والعملية العقلانية لصنع القرار. ورغم أن زيادة الأدلة تفيد دائما، فإن الحالات التي ورد ذكرها تلمح إلى الطريقة التي يمكن من خلالها أن تقوم الحكومات فعلا بتحسين عملية صنع القرارات المتعلقة بالقطاع العام. فالحكومات يمكنها على سبيل المثال التركيز بصورة محددة على عملية صنع القرارات بشأن الاستثمارات العامة، بإنشاء هياكل قادرة على مقاومة الأثر التشويهي للمصالح المكتسبة، وتحليل البدائل بعقلانية، وقياس النتائج بمنهجيات صارمة، وتعديل السياسات إذا لزم الأمر. فمن شأن ذلك توفير تركيز مطلوب بشدة للدعوة العامة إلى تحسين المؤسسات في البلدان الغنية بالموارد.وبمجرد ظهور صورة دقيقة عن النطاق المتاح لتعزيز النمو من خلال الاستثمارات العامة المحلية، ستكون حكومات البلدان الغنية بالموارد الطبيعية قادرة على اختيار البدائل الأفضل من بين خيارات السياسة، بما في ذلك الاستثمارات في صناديق الثروة السيادية، والاستثمارات المعززة للرفاه، وتوزيع أرباح الموارد الطبيعية على السكان.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
شركنا برايك ووجهة نظرك