قارة إفريقيا تعاني
الاستنزاف
وتشكل الموارد الطبيعية فعليا فرصة سانحة لتحقيق التنمية الاقتصادية. فمن حيث المبدأ، يمكن أن تساعد الإيرادات المشتقة من استغلالها على تخفيف القيود الملزمة التي غالباً ما تواجهها حكومات البلدان النامية في مساعيها لتحويل اقتصادياتها وتعزيز النمو وخلق فرص عمل. إلا أن تجارب البلدان الغنية بالموارد الطبيعية وخصوصاً البلدان الغنية بالهيدروكربون والموارد المعدنية تشير إلى أن ثروة الموارد الطبيعية ليست نعمة في جميع الأحوال. بل يمكن في الواقع أن تكون نقمة. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، كان النمو الاقتصادي في البلدان الغنية بالموارد أقل في المتوسط منه في البلدان الفقيرة بالموارد توجد عدة تفسيرات للأسباب التي يمكن لأجلها أن تكون لاستغلال الموارد الطبيعية آثارٌ سلبية وأحد هذه التفسيرات هو فساد النخب السياسية ونخب الإدارة العامة. ونظرا لأن الإيرادات المشتقة من الموارد الطبيعية تتدفق في حالات كثيرة بصورة مباشرة من خلال خزائن الحكومة، فربما تكون هذه النخب قادرة على استغلال ضعف نظام الضوابط والتوازنات لاختلاس تلك الثروات لأنفسها وتوجيهها إلى الخارج. ويمكن أن يتخذ هروب رأس المال، المعرَّف هنا بصورة عامة باعتباره تدفق النقود أو الأوراق المالية إلى خارج بلد ما، أشكالا عدة. ولسبب وجيه، لقي أحد هذه الأشكال اهتماما كبيرا في الدوائر الأكاديمية ودوائر صنع السياسة: وهو التدفقات المالية الخارجة غير المشروعة. وحسب تقديرات منظمة النزاهة المالية العالمية، وهي منظمة للبحوث والدعوة تعمل على تقييد تلك التدفقات، بلغت هذه التدفقات الخارجة من البلدان النامية 5.9
تريليون دولار بين عامي
2001 و
2010 . ومقارنة بذلك، بلغت الأموال التي قام المانحون الرئيسيون على مدى نفس الفترة بصرفها كمساعدة إنمائية رسمية 677
مليار دولار. وعلى مدى العقد الماضي، تشير عملية إرساء الديمقراطية في البلدان النامية وما تلاها من زيادة في الشفافية والمساءلة إلى أن التدفقات المالية الخارجة غير المشروعة يمكن أن تكون في حالة تراجع. ولكن في حين يمكن أن تفرض الحكومات مزيدا من القيود، فإن عولمة التجارة والمالية قد زادت الشركات متعددة الجنسيات قوة على قوتها، تاركة بعض النقاد يقولون إن هذه الشركات تستطيع النفاذ بكل حرية إلى رأس المال والعمالة والموارد الطبيعية على حساب مواطني البلدان. وعلى عكس التدفقات المالية غير المشروعة التي تحث عليها النخب السياسية، فإن هروب رأس المال بالشكل الذي أتت به الشركات متعددة الجنسيات التي تتلاعب بالأسعار وتستغل الثغرات في القوانين الضريبية قد حظي باهتمام أقل. ولكن قد تكون لذلك الأخير آثارٌ بعيدة الأثر على البلدان النامية، لا سيما البلدان الغنية بالموارد الطبيعية التي تتركز ثروتها في قطاع واحد. واستجابة للانتقادات المتزايدة، قامت الاقتصاديات المتقدمة واقتصاديات الأسواق الصاعدة التابعة لمجموعة العشرين بوضع مسألتي التهرب من الضرائب ونقل الأرباح عموما على رأس بنود جدول أعمالها. وفي يوليو
2013 ، اعتمدت المجموعة خطة عمل للسيطرة على تهرب الشركات متعددة الجنسيات من الضرائب، تستند إلى توصيات وردت في تقرير صادر عن منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ,
(OECD 2013 ويشارك صندوق النقد الدولي في الوقت الراهن في جهد رئيسي لمراقبة الانعكاسات الاقتصادية الكلية المترتبة على انتشار الآثار عبر البلدان من تصميمات وممارسات الضرائب الوطنية.
الشركات متعددة الجنسيات و تحويل الأموال :
نظرا لأن الشركات متعددة الجنسيات تعمل في بلدان مختلفة وأحيانا في قارات مختلفة، فإنها تستطيع بسهولة أن تختار ما يناسبها من بين التنظيمات والقوانين الضريبية المختلفة عبر البلدان للتهرب من دفع الضرائب في كل من البلدان التي تستخرج منها الثروات والبلدان التي توجد مقارها فيها. وعلى وجه التحديد، تمارس بعض الشركات متعددة الجنسيات ما يعرف باسم سعير التحويلات أو نقل الأرباح، الذي يتضمن صافي أرباح أو خسائر الشركة قبل الضريبة إلى مناطق اختصاص معتمة تكون فيها الضرائب منخفضة، تسمى ملاذات ضريبية. وتستخدم هذه الملاذات الضريبية كمحال إقامة أكثر من مليوني شركة وآلاف البنوك. وتشير تقديرات بعض المحللين إلى أن الثروة في تلك الملاذات الضريبية تبلغ نحو 20 تريليون دولار . وإن كان من الصعب التيقن من ذلك نظرا للسرية التي تكتنف الملاذات الضريبية.
ويمكن للشركات متعددة الجنسيات أن تنقل أرباحها بسبل شتى. وإحدى الطرق المستخدمة على نطاق واسع هي طريقة «رأس المال المحدود » وهو ما يعني أن الشركة تختار أن تكون مديونيتها أكبر من مديونية الكيانات المستقلة المماثلة. وفعليا، تموَّل )أو ترسمَل( الشركات غالباً من خلال مزيج من الاقتراض )الدين( وإصدار الأسهم )حقوق المساهمين(. وتؤدي الطريقة التي تهيكل بها الشركة رأسمالها غالباً إلى خفض كبير في مبالغ الأرباح التي تبلغها للأغراض الضريبية، لأن القواعد الضريبية تسمح في أغلب الحالات بخصم ضريبي عن الفوائد المدفوعة ، ولكن ليس على أرباح حقوق المساهمين )الأرباح الموزعة(. وتتزايد حدة تحيز الدين هذا للشركات متعددة الجنسيات، التي تستطيع هيكلة ترتيبات تمويلها بحيث تقوم الكيانات المنتسبة لها في البلدان التي تفرض معدلات ضريبية مرتفعة بدفع الفائدة التي يسري عليها الخصم الضريبي إلى الكيانات المنتسبة لها في البلدان التي تفرض معدلات ضريبية منخفضة، أو الملاذات الضريبية، فتقلل بالتالي أعباءها الضريبية العالمية إلى أدنى حد ممكن.
الوعاء الضريبي و التشريع بين مصلحة البلد و مصلحة المستثمرين :
يمثل قطاع الموارد حلبة النشاط الرئيسي في كثير من البلدان النامية. ولذلك ينبغي أن تحاول الحكومات جمع أكبر قدر ممكن من الإيرادات من الأرباح الغزيرة المتولدة في هذا القطاع مع الحفاظ في الوقت نفسه على جاذبيتها للاستثمار إلا أن تحقيق التوازن السليم لتوليد أكبر قدر من الأرباح الاقتصادية غالباً ما يكون محفوفا بالأخطار لأسباب ليس أقلها أن استغلال الموارد الطبيعية، لا سيما المعادن والنفط والغاز، يتطلب قدرا كبيرا من الدراية الفنية ، التي لا تحرص الشركات متعددة الجنسيات على إتاحتها. ويمثل التهرب الضريبي، بسبل تشمل نقل الأرباح الذي تقوم به الشركات متعددة الجنسيات، مشكلة خطيرة لكثير من البلدان النامية، لا سيما الغنية بالموارد الطبيعية. وعلى سبيل المثال، تقدر حكومة زامبيا أنها تخسر ملياري دولار سنويا -
15 % من إجمالي الناتج المحلي - بسبب التهرب الضريبي للشركات التي تقوم بتشغيل مناجم النحاس داخل البلد. فنقل الأرباح يؤدي إلى تناقص الوعاء الضريبي في البلدان التي تعمل فيها الشركات متعددة الجنسيات وكذلك في البلدان التي توجد فيها مقار هذه الشركات. ومن الجوانب المهمة التي تنطوي عليها عملية نقل الأرباح خسارة التداعيات الإيجابية التي يمكن أن تنتقل إلى البلد نتيجة لاستغلال موارده الطبيعية، بما في ذلك من خلال تطوير النظام المالي المحلي. ومن شأن منع هروب رأس المال الناشئ عن الشركات متعددة الجنسيات العاملة في قطاع الموارد أن يساعد على تطوير النظام المالي المحلي، وخصوصاً أسواق الأسهم مع ما يصاحبه من منافع في مجالي تقاسم المخاطر وتوفير السيولة. ومن شأن ذلك بدوره أن يساعد في تمويل القطاع غير المتصل بالموارد وتطويره بما يتيح لهذه البلدان تنويع اقتصادياتها وتجنب تحقيق نمو اقتصادي لا تدعمه إلا الموارد الطبيعية غير المتجددة. ويقدم التطور التاريخي لسوق الأسهم في جنوب إفريقيا صورة توضيحية للمنافع التي يمكن أن تتحقق من اكتشافات الموارد الطبيعية. ففي عام
1886 ، أعقب اكتشاف الذهب إنشاء بورصة جوهانسبرغ بعد وقت وجيز. وقد ساعدت هذه البورصة على جمع الأموال لصناعة التعدين والقطاع المالي التي كانت تشهد طفرة آنذاك. واليوم يتجاوز رأسمال بورصة جوهانسبرغ 800
مليار دولار أمريكي ويبلغ عدد الشركات المقيدة بها 411
شركة تنتمي غالبيتها العظمى للقطاع غير المتصل بالموارد. استجابة السياسات من الأمور المشروعة للبلدان النامية التي تتوافر لديها موارد طبيعية أن تلزم الكيانات المنتسبة للشركات متعددة الجنسيات المشاركة في استغلال مواردها بدفع مبلغ ضريبي عادل وتجنب التلاعب بهيكلها الرأسمالي للأغراض الضريبية. ولمنع هذه الممارسات، وضعت عدة بلدان قاعدة تسمى قاعدة رأس المال المحدود، تحدد بالأساس نسبة الدين إلى أسهم الملكية «كملاذ ضريبي » تضع حدا لمقدار الفائدة القابلة للخصم الضريبي للأغراض الضريبية. وتهدف هذه النسبة إلى مواجهة نقل الأرباح عبر الحدود من خلال الدين الزائد وتهدف بالتالي إلى حماية الوعاء الضريبي للبلد المعني. وقد بدأ تطبيق هذه القاعدة للمرة الأولى في عام
1972 في كندا وهي مطبقة الآن في نحو 60 بلدا. وتطبَّق هذه القاعدة غالباً في البلدان التي توجد لديها قطاعات كبيرة للموارد الطبيعية تعمل بها شركات متعددة الجنسيات وبدأ تطبيقها مؤخرا في بلدان نامية غنية بالموارد الطبيعية في إفريقيا، منها سيراليون وأوغندا وزامبيا. لكن المفاضلات موجودة. ورغم أن القاعدة تهدف إلى منع التهرب الضريبي المفرط، فربما يكون الأثر السلبي المحتمل على الاستثمار الأجنبي المباشر هو الثمن الذي قد يتعين على البلدان دفعه لتجنب تناقص وعائها الضريبي ومساعدة نظامها المالي المحلي على التطور. ويؤثر تطبيق القاعدة على تمويل عمليات الشركات بزيادة تكاليفها، لأنه يحد من المنافع الضريبية الناتجة عن خصم الفائدة المدفوعة على الأموال المقترضة. وإضافة إلى ذلك، ففي غياب نظام مالي محلي يعمل بصورة جيدة، تكون التكلفة المحلية لرأس المال المساهم التي تتحملها نقل الأرباح يؤدي إلى تناقص الوعاء الضريبي في البلدان التي تعمل فيها الشركات متعددة الجنسيات. الشركة المعنية أعلى. وفي هذا الصدد، ربما تؤدي قاعدة رأس المال المحدود، بدرجة ما، إلى ردع الاستثمار الأجنبي المباشر. إلا أنه يرجح أن تقوم هذه الشركات متعددة الجنسيات بتوليد أموال من الداخل من الأرباح المحلية، ويمكنها توجيهها إلى الاستثمار بتكلفة أقل من رأس المال بدلا من نقل الأرباح إلى الشركات المنتسبة الأجنبية.
قاعدة لرأس المال المحدود لردع خروج التدفقات الكبيرة
يمكن أيضا أن يساعد إثبات ما إذا كانت قاعدة رأس المال المحدود تشجع زيادة التمويل بأسهم الملكية في قطاع الموارد على تحديد ما إذا كانت هذه القاعدة تحسن أسعار أصول الموارد الطبيعية للبلدان وبالتالي تساعد في تطوير سوق أسهم محلية ، ومن الأمور المثيرة للاهتمام بنفس القدر مسألة ما إذا كانت حساسية الدين الخارجي للبلدان المضيفة لمعدل ضريبة الموارد تتغير نتيجة وجود تلك القاعدة. وللحصول على بعض الإجابات، أجرينا تحليلا للأحداث باستخدام تغيرات في توقيت وحجم اكتشافات النفط والغاز والمعادن لدى مجموعة قُطرية مقارنة تضمنت أكثر من مائة بلد خلال الفترة 1970/2012 ويقوم إطارنا التجريبي بتحييد أثر العوامل التي لا تتغير بمرور الوقت، بما في ذلك جودة المؤسسات، التي تضطلع بدور مهم في تطوير أو عدم تطوير سوق للأسهم . وتشير النتائج إلى أنه عقب حدوث اكتشاف للموارد، تتناقص رسملة سوق الأسهم.
التي وجدت أدلة على أن البلدان الغنية بالموارد الطبيعية غالباً ما تكون لديها نظم مالية أقل تطورا. إلا أن نتائجنا تشير إلى أن وجود قاعدة لرأس المال المحدود تتيح للبلدان تبديل الأثر السلبي لاكتشافات الموارد على رسملة سوق الأسهم. ويكون ذلك الأثر كبيراً من حيث تأثيره على الاقتصاد. وتصْدق النتائج التي توصلنا إليها
على اكتشافات المعادن والنفط والغاز، رغم أن التوقيت يتغير حسب نوع الاكتشاف. فبعد حدوث اكتشاف كبير، تتزايد رسملة سوق الأسهم بنسبة تصل إلى 20
% من إجمالي الناتج المحلي في ظل قاعدة لرأس المال المحدود ، وتتناقص حساسية الدين الخارجي للبلدان لمعدل ضريبة قطاع الموارد. ويحدث ذلك لأن الدعم الضريبي المقدم للشركات التي تدفع فوائد على ديونها الخارجية يكون أقل في ظل هذه القاعدة. تغيرات في الطريق تمثل قاعدة رأس المال المحدود استجابة أحادية لواحدة من الممارسات الرئيسية في سلوك استغلال التشريعات لدفع أقل قدر ممكن من الضرائب الذي تنتهجه الشركات متعددة الجنسيات ، وربما يكون هو الخيار الذي تتوفر له أكبر مقومات نجاح في الوقت الحالي. فهو لا يقتصر على حماية الوعاء الضريبي للبلدان الغنية بالموارد، وإنما يساعد أيضا على ربط التطور المالي لهذه البلدان باستغلال مواردها الطبيعية.
ومع ذلك فقد طرحت بدائل أخرى. واستنادا إلى التجربة الأمريكية، طرح جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل، مؤخراً اقتراحاً يدعو إلى فرض ضرائب على الأرباح العالمية للمجموعات متعددة الجنسيات وإعادة توزيع جزء من حصائل الضرائب تلك على البلد الذي نشأت فيه القيمة. وإذا ما أُخذ بهذا الاقتراح، فإنه سيكون مشابها للتقارب مع نظام فرض الضريبة من المنبع، الذي يقوم عدد كبير من الشركات متعددة الجنسيات بحشد ضغوط كثيفة ضده. وفي حين يتسم اقتراح ستيغليتز بالجاذبية من الناحية المفاهيمية، فقد يكون غير عملي بالنظر إلى محدودية مستوى الإفصاح الذي تلزم به الآن هذه الشركات، ناهيك عن صعوبة التنسيق بين جميع الأطراف الفاعلة، بما في ذلك الملاذات الضريبية. وقد ساهمت عدة مبادرات وضعت مؤخرا في زيادة مستوى إفصاح الشركات متعددة الجنسيات العاملة في قطاع الموارد الطبيعية. ولا شك أن زيادة الإفصاح خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح. فهي ستساعد على إخضاع المجموعات متعددة الجنسيات لقدر أكبر من المساءلة أمام السلطات الضريبية في البلدان التي تعمل بها وأمام الجمهور على نطاق أوسع. إلا أن زيادة الشفافية لا تعدو أن تكون خطوة أولى صوب حماية الوعاء الضريبي ولا تردع التهرب الضريبي من خلال طرق استغلال التشريعات لدفع أقل قدر ممكن من الضرائب مثل طريقة رأس المال المحدود. وبوجه عام، فإن الشاغل بشأن هروب رأس المال الكبير من البلدان النامية، لا سيما البلدان الغنية بالموارد، ينبغي أن يتجاوز بكثير حدود التدفقات المالية غير المشروعة وأن ينظر في سلوك الشركات الذي يبدو مشروعاً في ظاهره وفي قدرتها المتنامية على نقل الأرباح وتقليص الوعاء الضريبي. ولذلك ينبغي وضع آليات فعالة، مثل قاعدة لرأس المال المحدود ، لردع خروج تدفقات كبيرة في إطار مخططات التهرب الضريبي .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
شركنا برايك ووجهة نظرك