مفهوم العولمة و نشأتها
العولمة : والتي تمثل مرحلة متطورة للهيمنة
الرأسمالية الغربية على العالم .
إن سقوط النظام الاشتراكي أدى إلى تحول
العالم من ” نظام الحرب الباردة ” المتمركز حول الانقسام والأسوار إلى نظام
العولمة المتمركز حول الاندماج وشبكات الإنترنت ” تتبادل فيه المعلومات والأفكار والراسمال
بكل يسر وسهولة” . وانتصار الرأسمالية على الاشتراكية أدى إلى تحول كثير من
الاشتراكيين إلى الرأسمالية والديمقراطية باعتبارها أعلى صورة ـ بزعمهم ـ وصل
إليها الفكر الإنساني وأنتجه العقل الحديث حتى عده بعضهم أنه نهاية التاريخ.
لفظة العولمة هي ترجمة للمصطلح
الإنجليزي (Globalization) وبعضهم يترجمها
بالكونية، وبعضهم يترجمه بالكوكبة، وبعضهم بالشوملة إلا إنه في الآونة الأخيرة
أشتهر بين الباحثين مصطلح العولمة وأصبح هو أكثر الترجمات شيوعاً بين أهل الساسة
والاقتصاد والإعلام . وتحليل الكلمة بالمعنى اللغوي يعني تعميم الشيء وإكسابه
الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله.
وكثرت الأقوال حول تعريف معنى العولمة
حتى أنك لا تجد تعريفاً جامعاً مانعاً يحوي جميع التعريفات وذلك لغموض مفهوم
العولمة ، ولاختلافات وجهة الباحثين فتجد للاقتصاديين تعريف ، وللسياسيين تعريف ،
وللاجتماعيين تعريف وهكذا ، ويمكن تقسيم هذه التعريفات إلى ثلاثة أنواع : ظاهرة
اقتصادية ، وهيمنة أمريكية ، وثورة تكنولوجية واجتماعية.
العولمة
ظاهرة اقتصادية
عرفها الصندوق الدولي بأنها :” التعاون
الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع
والخدمات وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى رؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع
للتقنية في أرجاء العالم كله .
وعرفها “روبنز ريكابيرو” الأمين العام
لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والنمو ـ بأنها :”العملية التي تملي على المنتجين
والمستثمرين التصرف وكأن الاقتصاد العالمي يتكون من سوق واحدة ومنطقة إنتاج واحدة
مقسمة إلى مناطق اقتصادية وليس إلى اقتصاديات وطنية مرتبطة بعلاقات تجارية
واستثمارية.
كما تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم
في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة ، وانتقال الأموال والقوى العاملة
والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق ، وتاليا خضوع العالم لقوى
السوق العالمية ، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في
سيادة الدولة ، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة
متخطية القوميات
إنها
الهيمنة الأمريكية :
العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً
بعينه ، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات ، على بلدان العالم أجمع .فهي بهذا
التعريف تكون العولمة دعوة إلى تبنى إيديولوجية معينة تعبر عن إرادة الهيمنة
الأمريكية على العالم . ولعل المفكر الأمريكي ” فرانسيس فوكوياما ” صاحب كتاب ”
نهاية التاريخ “يعبر عن هذا الاتجاه فهو يرى أن نهاية الحرب الباردة تمثل المحصلة
النهائية للمعركة الإيديولوجية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد
السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وهي الحقبة التي تم فيها هيمنة التكنولوجيا
الأمريكية .
إنها ثورة تكنولوجية واجتماعية :
يقول الاجتماعي “جيمس روزناو” في
تعريفها قائلاً :” العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل : الاقتصاد، السياسة
، الثقافة ، الايدولوجيا ، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج ، تداخل الصناعات عبر الحدود
، انتشار أسواق التمويل ، تماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول ، نتائج الصراع بين
المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة.وعرفها بعضهم بأنها : “الاتجاه المتنامي
الذي يصبح به العالم نسبياً كرة اجتماعية بلا حدود . أي أن الحدود الجغرافية لا
يعتبر بها حيث يصبح العالم أكثر اتصالاً مما يجعل الحياة الاجتماعية متداخلة بين
الأمم” .
فهو يرى أن العولمة شكل جديد من أشكال
النشاط ، فهي امتداد طبيعي لانسياب المعارف ويسر تداولها تم فيه الانتقال بشكل
حاسم من الرأسمالية الصناعية إلى المفهوم ما بعد الصناعي للعلاقات الصناعية .
وهناك من يعرفها بأنها:” زيادة درجة
الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس
الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات و ايضا هي التداخل الواضح لأمور
الاقتصاد والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات
السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية .
وبعد
قراءة هذه التعريفات ، يمكن أن يقال في تعريف العولمة : أنها صياغة إيديولوجية
للحضارة الغربية من فكر وثقافة واقتصاد وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام
الوسائل الإعلامية ، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على
العالم.
يذهب بعض الباحثين إلى أن العولمة ليست
وليدة اليوم ليس لها علاقة بالماضي؛ بل هي عملية تاريخية قديمة مرت عبر الزمن
بمراحل ترجع إلى بداية القرن الخامس عشر إلى زمن النهضة الأوروبية الحديثة حيث
نشأت المجتمعات القومية .. فبدأت العولمة ببزوغ ظاهرة الدولة القومية عندما حلت
الدولة محل الإقطاعية، مما زاد في توسيع نطاق السوق ليشمل الأمة بأسرها بعد أن كان
محدوداً بحدود المقاطعة .
وذهب بعض الباحثين إلى أن نشأة العولمة
كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين ، إلا
أنها في السنوات الأخيرة شهدت تنامياً سريعاً . هناك من يرى بأن نشأت ظاهرة الكوكبة (العولمة) وتنامت في النصف
الثاني من القرن العشرين ، وهي حالياً في أوج الحركة فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن
نسمع أو نقرأ عن اندماج شركات كبرى ، أو انتزاع شركة السيطرة على شركة ثانية ..
إن
الدعوة إلى إقامة حكومة عالمية، ونظام مالي عالمي موحد والتخلص من السيادة القومية
بدأت في الخطاب السياسي الغربي منذ فترة طويلة فهذا هتلر يقول في خطابه أمام
الرايخ الثالث :” سوف تستخدم الاشتراكية الدولية ثورتها لإقامة نظام عالمي جديد”
وفي كتابات الطبقة المستنيرة عام 1780:” من الضروري أن نقيم إمبراطورية عالمية
تحكم العالم كله “
وجاء في إعلان حقوق الإنسان الثاني عام
1973 :” إننا نأسف بشدة لتقسيم الجنس البشري على أسس قومية . لقد وصلنا إلى نقطة
تحول في التاريخ البشري حيث يكون أحسن اختيار هو تجاوز حدود السياسة القومية ،
والتحرك نحو بناء نظام عالمي مبني على أساس إقامة حكومة فيدرالية تتخطى الحدود
القومية “
وكانت ورئيسة الوزراء البريطانية
السابقة مارجريت تاتشر قد اقترحت فكرة العولمة يرافقها في ذلك الرئيس الأمريكي
السابق رولاند ريغن. ووجهة نظر تاتشر الاقتصادية ـ والتي عُرفت بالتاتشرية ـ
انبثقت من الاستحواذ اليهودي للمال والعتاد … حيث أن فكرتها الاقتصادية والتي
صاغها اليهودي جوزيف وهي تهدف بجعل الغني أغنى والفقير أفقر.
ويذكر “بات روبرتسون(” إن النظام
العالمي الجديد نظام ماسوني عالمي ، ويعلل على ما يقول : ” بأن على وجهي الدولار
مطبوع علامة الولايات المتحدة ، وهي عبارة عن النسر الأمريكي ممسكاً بغصن الزيتون
رمز السلام بأحد مخالبه ، وفي المخلب الآخر يوجد 13 سهماً رمز الحرب . وعلى الوجه
الآخر هرم غير كامل ، فوقه عين لها بريق المجد ، وتحت الهرم كلمات لاتينيه (Novus Order Seclorum) وهي شطرة من شعر فرجيل الشاعر
الروماني القديم معناها ” نظام
جديد لكل العصور “. إن الذي صمم علامة الولايات المتحدة هذه هو تشارلز
طومسون ، وهو عضو في النظام الماسوني وكان يعمل سكرتير للكونجرس . وهذا الهرم
الناقص له معنى خاص بالنسبة للماسونيين ، وهو اليوم العلامة المميزة لأتباع حركة
العصر الجديد .” وبعد تحليل ليس بطويل يصل المؤلف إلى وجود علاقة واضحة تربط بين
النظام الماسوني والنظام العالمي الجديد .
وقد جاء في مجلة المجتمع بحثاً عن
منظمة “بلدربرج” والذي أسسها رجل الأعمال السويدي ” جوزيف هـ. ريتنجر” ـ والذي سعى
إلى تحقيق الوحدة الأوروبية ، وتكوين المجتمع الأطلسي ـ وهي منظمة سرية تختار
أعضاءها بدقة متناهية من رجال السياسة والمال ، وتعقد اجتماعاتها في داخل ستار
حديدي من السرية ، وفي حراسة المخابرات المركزية الأمريكية وبعض الدول الأوروبية ،
ولا تسمح لأي عضو بالبوح بكلمة واحدة عن مناقشاتها ، ولا يحق للأعضاء الاعتراض أو
تقديم أي اقتراح حول مواضيع الجلسات ، ويمول هذه المنظمة مؤسسة روكفلور اليهودية
وبنك الملياردير اليهودي روتشيلد ، ومعظم الشخصيات في هذه المنظمة هم من
الماسونيين الكبار ، وكثير من رؤساء الولايات المتحدة نجحوا في الانتخابات بعد
عضويتهم في هذه المنظمة مثل : ريجان ، وكارتر ، وبوش ، وكلينتون ، وبعد اشتراك
تاتشر في المنظمة بسنتين أصبحت رئيسة وزراء إنجلترا ، وكذلك بيلر أصبح رئيساً
للوزراء بعد مضي أربع سنوات من اشتراكه في المنظمة ، وهي تسعى للسيطرة على العالم
وإدارته وفق رؤيتها ، فقرارتها تؤثر على التجارة الدولية وعلى كثير من الحكومات .
فالعولمة نشأت مع العصر الحديث وتكونت
بما أحدثه العلم من تطور في مجال الاتصالات وخصوصاً بعد بروز الإنترنت والتي أتاحت
مجال واسع في التبادل المعرفي والمالي ، وارتباط نشأة الدولة القومية بالعولمة في
العصر الحاضر فيه بعد عن مفهوم العولمة والذي يدعو أساساً إلى نهاية سيادة الدولة
والقضاء على الحدود الجغرافية ، وتعميم مفهوم النظام الرأسمالي واعتماد الديمقراطية
كنظام سياسي عام للدول. ولكن هناك أحداث ظهرت ساعدت على بلورة مفهوم العولمة
وتكوينه بهذه الصيغة العالمية فانهيار سور برلين ، وسقوط الاشتراكية كقوة سياسية
وإيديولوجية وتفرد القطب الأوحد بالسيطرة والتقدم التكنولوجي وزيادة الإنتاج ليشمل
الأسواق العالمية أدت إلى تكوين هذا المفهوم .
وخلاصة البحث أن مصطلح العولمة منشأه
غربي، وطبيعته غربية، والقصد منه تعميم فكره وثقافته ومنتوجاته على العالم، فهي
ليست نتيجة تفاعلات حضارات غربية وشرقية، قد انصهرت في بوتقة واحدة ؛ بل هي سيطرة
قطب واحد على العالم ينشر فكره وثقافته مستخدمة قوة الرأسمالي الغربي لخدمة
مصالحه. فهو من مورثات الصليبية فروح الاستيلاء على العالم هي أساسه ولبه ولكن
بطريقة نموذجيه يرضى بها المستعمر ويهلل لها ؛ بل ويتخذ هذه الصليبية الغربية
المتلفعة بلباس العولمة مطلب للتقدم . يقول “بات روبرتسون: لم يعد النظام العالمي الجديد مجرد
نظرية ، لقد أصبح وكأنه إنجيل.”
نركز
فيما يلى على ثلاثة آثار رئيسية للعولمة على النحو التالى:
1ـ
العولمة والبطالة، فى تعبير واضح عن جوهر العولمة، يقول السيد
بيرسي برنيفيك رئيس مجموعة ABB عن مفهومه عن العولمة أنها الحرية لكل فرع من
فروع مجموعة الشركات التي أرئسها لتستثمر أينما وحينما تشاء، ولتنتج ما تحب أن
تنتجه وتبيع ما تود بيعه . كل هذا دون أن تواجه أي معوقات حتى لو كانت بسيطة من
قبل أي قوانين لتنظيم العمل أو أي تشريعات اجتماعية.
وتعد البطالة من أهم الكوارث التي نتجت
وتنتج عن تعميم نظام الليبرالية الجديدة عبر نظام العولمة وهو ما وضح بشدة في
الدول التي طبقت نظم الليبرالية الجديدة مثل الأرجنتين و المكسيك والبرازيل و
تايلاند. ووفقا لتقرير منظمة العمل الدولية الصادر في عام 2001، فإن الصورة قد
تبدو قاتمة بعض الشيء حيث وصل عدد العاطلين عن العمل و يبحثون عن فرصة عمل في
العالم إلى 160 مليون متعطل عن العمل، ينتمي 50 مليون متعطل منهم للبلدان الصناعية
المتقدمة. كما انه هناك أكثر من 500 مليون من الحاصلين على أجر مقابل العمل يعيشون
بدخل أقل من 1 دولار يومياً.
هذا هو نتاج العولمة التي لا تضع في
حسبانها اختلاف معدلات الإنتاجية من منطقة لأخرى في العالم وبالتالى لا يمكن أن
توجد فرص منافسة حقيقية على المستوي العالمي لو قمنا بتطبيق معيار وشروط إنتاجية
واحدة في كافة أنحاء العالم. هذا بالإضافة إلى أن سعي رأس المال إلى الحصول على
معدل ربح عإلى ( معيار 15% من حجم رأس المال المستثمر كحد أدني) أو الانسحاب من
الأسواق و حرمان الكثير من المجتمعات من صناعات هي في حاجة إليها ليخرج الكثير من
العاملين لسوق البطالة.
تعتبر المعايير الموحدة للإنتاجية التي
تفرضها عملية العولمة من أهم الأسباب التي تؤدي إلى اختفاء المنتجين ذوى معدلات
الإنتاجية المخالفة للمعيار العالمي المفروض عليهم من قبل الليبرالية الجديدة و من
ثم المزيد من البطالة والوظائف المؤقتة.
ثبت عبر دراسة علمية أن تحول بعض
الوظائف من الشمال المتقدم للجنوب الفقير بحثاً عن الأيدي العاملة رخيصة الثمن ليس
هو السبب الحقيقي في انتشار البطالة بين صفوف الطبقة العاملة في العالم المتقدم.
هذه النتيجة هي محصلة دراستين في غاية الأهمية قام بهما المركز القومي للأبحاث
الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1997. تتم الدارسة عبر عينات
كبيرة من الشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية وتصل في النهاية إلى نتيجة بمقتضاها
أن منافسة الوظائف في فروع الشركة في العالم الثالث للوظائف في الفرع الرئيسي
للشركة بالولايات المتحدة الأمريكية هامشية إلى حد كبير، ولكن هناك منافسة شرسة
بين الوظائف في فروع الشركة الموجودة خارج الولايات المتحدة الأمريكية. تري
الدراسة أن الوظائف الجديدة التي يتم خلقها عبر الاستثمارات في فرع الشركة في
البرازيل على سبيل المثال تهدد بشكل أقل الوظائف الموجودة في الفرع الرئيسي
بالولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تهدد بشدة الوظائف الموجودة في فرع الشركة في
جنوب شرق أسيا. بمعني أخر؛ تكون أعلى درجات المنافسة على الوظائف بين الأيدي
العاملة للدول الآخذة في النمو و بالذات في المجالات الإنتاجية ذات المعدلات
المنخفضة للقيمة المضافة. هذا لا يمنع أن الوظائف في البلدان الصناعية المتقدمة تكون
في حالة منافسة فيما بينها ولكن بدرجة أقل عن تلك التي تتم بين القوي العاملة في
البلدان الآخذة في النمو والعاملة في مجالات الاستثمارات الأجنبية للشركات متعددة
الجنسية.
تثبت تلك الدراسة أن عمالة الدول
الآخذة في النمو لا تسرق الوظائف من العمالة في الدول المتقدمة وأن تأثير ذلك على
التشغيل الكلي في الدول المتقدمة لا يذكر. بل أن نموذج العولمة وتسيد النظام الحر
المعتمد على التصدير للسوق العالمي وجذب الاستثمارات الأجنبية الذي يروج له البنك
الدولي وصندوق النقد هو واحد من أهم أسباب البطالة في الدول الآخذة في النمو. تلك
الدول التي تجذب الاستثمارات بغرض إنشاء صناعات تصديرية تدخل في حلقة مفرغة جهنمية
عرفتها المكسيك في عام 1994 إبان أزمة انهيار البيزو المكسيكي. تتمثل تلك الحلقة
في أن اقتصاد الدولة المتوجه نحو الخارج والذي ترتبط عملته ارتباطاً وثيقاً
بالدولار لا ينجح رفع حجم صادراته بالقدر الذي يفوق نمو وارداته، والتي ترتفع
أسعارها بمعدلات تفوق معدلات الزيادة في أسعار الصادرات، وينتج عن ذلك خللاً في
الميزان التجاري وتزداد الفجوة بين الصادرات والواردات ليؤثر ذلك على قيمة العملة
الوطنية لتصل لمرحلة الانهيار، ويستتبع ذلك في كثير من الحالات انسحاب الاستثمارات
الأجنبية من سوق الدولة المعنية لتختفي الوظائف التي تم خلقها أثناء فترة النمو
والتوسع.
2ـ
التركيز على عولمة رأس المال وليس التكنولوجيا، تسعي العولمة لفتح الأبواب أمام
الاستثمارات في كل أنحاء العالم دون أن تواجه بأي عائق يمنعها من تحقيق الأرباح
وتحويلها إلى خارج البلدان المستثمر فيها. عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا فأننا
سنجد الأمر على العكس تماماً حيث يسيطر العالم المتقدم وبالذات الولايات المتحدة
الأمريكية على أسواق التكنولوجيا في العالم، فلقد تعلمت الدرس تماما من التقدم الذي
أحرزته بعض دول جنوب شرق أسيا في مجال التصنيع، ولذا فهي تسعي منذ مدة إلى حصر
نشاط دول الجنوب في مجال الوكلاء من الباطن وتلافي تحقيق دول أخري لمستوي تصنيع
مستقل وله القدرة على تطوير تكنولوجياته الخاصة، وهو ما سيدخله في تنافس واضح مع
صناعات العالم المتقدم. وتسعي الدول المتقدمة إلى عدم نقل التكنولوجيا حتى لا
تتولد مراكز تنافسية جديدة، ويتمثل السلاح الفعال لتلك السياسة في تطبيق الشعار
الذي أطلقه بيل جيتس، أغني أغنياء العالم ورئيس شركة مايكروسوفت في التسعينيات حين
طالب تسجيل براءات الاختراعات بأكبر حجم ممكن. سمعت نصيحة بيل جيتس بحذافيرها حيث
تضاعفت براءات الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العشر سنوات الماضية،
حيث حدث نوع من التركيز تمثل فى أن 87% من 160 ألف براءة التي تم تسجيلهم في عام
2000 في العالم كانوا في الولايات المتحدة الأمريكية.
أدت هذه الـهيمنة الغربية في مجال
التكنولوجية إلى رسم خريطة جديدة للعالم وفقاً لتعبير الاقتصادي جيفري ساتشس والذي
اعترف بهذا، بالرغم من إنكاره لتلك الحقيقة عندما كان يعمل مع صندوق النقد الدولي.
يري جيفري ساتشس أن 15% فقط من سكان العالم يشكلون المنطقة الأولي على مستوي العالم
الذين يحتكرون التكنولوجيا الجديدة، والمنطقة الثانية من خريطة التكنولوجية
العالمية والتي تضم حـوإلى 50% من سكان العالم يمكن لهم التعامل وتبني
التكنولوجيات الجديدة، والمنطقة الثالثة والتي يطلق عليها منطقة المهمشين
تكنولوجيا وهم على سبيل المثال سكان جنوب المكسيك وجزء كبير من البرازيل
الاستوائية وأفريقيا وبعض مناطق روسيا، وهي المناطق التي تعاني من الفقر و تدني
مستوي المعيشة. هذا التقسيم التكنولوجي من قبل العولمة سيؤدي إلى أتساع الفجوة بين
الشمال والجنوب و إلى حصر عملية التطوير التكنولوجي في معيار الربح المتوقع وليس
في إطار الحاجة الفعلية للبشرية، ولعل اكبر مثال على هذا قطاع الدواء وشركاته
العالمية والمعركة الشهيرة مع جنوب أفريقيا والبرازيل حول حقوق الملكية الفكرية
لدواء معالجة مرض الإيدز.
3
ـ نقل التضخم من الاقتصاد إلى أسواق المال، فمنذ تولي فكر النقديين زمام الأمور
في الدول الصناعية، يتم ضبط الاقتصاد عبر الأدوات النقدية المتعارف عليها، مثل ضبط
حجم الكتلة النقدية وسعر الفائدة. كان رفع أسعار الفائدة هو أحد أهم الأسلحة
لمحاربة التضخم, و لكن رفع سعر الفائدة هو واحد من أهم الأسباب في زيادة البطالة .
حيث تجمدت قيمة المرتبات الحقيقية في الدول الأوربية التي تمتلك نظام حد أدني
للراتب يعمل بفاعلية،في حين انخفضت القيمة الفعلية للرواتب في كل من الولايات
المتحدة الأمريكية و بريطانيا، وهناك حوالى 13% من حجم سكان الولايات المتحدة
الأمريكية يعيشون تحت خط الفقر.
لا يدرك النقديون الجدد الحقيقة
الاقتصادية بشكل كلي ولا السبب الحقيقي للتضخم الذي جعلوا من مكافحته التبرير
الرئيسي لصلاحية نظرياتهم، حيث أن السبب الحقيقي للتضخم يكمن في الخلل وعدم
التوازن الحادث بين الاستهلاك والادخار( الاستثمار). فعند ارتفاع الاستهلاك بنفس
معدلات الادخار فان الإنتاج لا يزيد بنفس معدلات الطلب على السلع والخدمات لنقص
الاستثمارات، فيتولد حينئذ التضخم. وفى حالة ارتفاع الادخار الكلي على حساب
الإنفاق على الاستهلاك، فإن فائض الادخار لا يمكن أن يتحول إلى استثمارات في مجال
الصناعة والخدمات، نظراً لأن الاستثمارات الإضافية تولد في تلك الحالة فائض إنتاج
من السلع والخدمات لا يمكن استيعابها لانخفاض الطلب الفعلى عليها، في تلك الحالة
فإن المدخرات ستتحول تجاه الأسواق التمويلية. القاعدة في هذه الأسواق هي أنه في
حالة زيادة الطلب على الأسهم ترتفع أسعارها في الوقت الذي لا ترتفع فيه قيمتها
الفعلية، ومن ثم تعاني الأسواق التمويلية في تلك الحالة من تضخم.
وينبع
الخلل الرئيسى الحادث بين الإنفاق على الاستهلاك / الادخار من عدة أسباب من أهمها:
أ
ـ عدم التوازن في توزيع عوائد الزيادة في الإنتاجية بين العمل ورأس المال. وإذا كان هذا الخلل في التوزيع لصالح
العمل، فإن الاقتصاد يشهد زيادة في الطلب يؤدي إلى ظهور تضخم حقيقي في الاقتصاد .
أما إذا كانت الاستفادة الأكبر من الزيادة في الإنتاجية لصالح عوائد رأس المال فإن
الأسواق التمويلية هي التي ستشهد حالة تضخم.
ب
ـ تزايد حالات الادخار الإجباري مثل تزايد مبالغ صناديق المعاشات، أو تزايد حالات الاستهلاك الإجباري
كما في حالات مكافآت المعاش المبكر، حيث تحدث الأولى تضخماً في الأسواق التمويلية
والثانية تضخما داخل الاقتصاد الحقيقي.
يؤدي التضخم (المضاربة) الحادث في
الأسواق التمويلية إلى ارتفاع في قيمة الأسهم بشكل يرفع أرباح تبادلها بشكل ملحوظ
عن تلك المتولدة عن الاستثمارات التقليدية. قدم السوق التمويلي في تلك الحالة
أربـاحـاً عالية دون أن يكون خاضعاً للضريبة في الكثير من الحالات لينافس بذلك
وبشكل غير عادل قطاع الاقتصاد التقليدى، وهو ما يبرر الصعوبات التي تواجهها
الشركات المتوسطة والصغيرة في الدول المتقدمة بالرغم من أنها تقدم فرص كبيرة لسوق
العمل.
ومن الآثار السلبية للتضخم الحادث في
الأسواق التمويلية أن الشركة الطارحة أسهمها في البورصة تجد نفسها مجبرة على رفع
أرباح أسهمها، وذلك لأن القيمة الحقيقية للأسهم تعتمد على العلاقة بين قيمة السهم
وأرباحه الموزعة؛ فإذا كانت أرباح السهم الموزعة لا تزيد مع زيادة قيمة السهم في
البورصة فإن المستثمرين سيتوجهون نحو الأسهم التي توزع أرباحاً أعلى وهو ما سيؤدي
إلى انخفاض قيمة الأسهم المتروكة أو المتحول عنها ذات الربحية الأقل.
تعمل آليات الأسواق المالية والتمويلية
في الأمد القصير، وبالتالى تجد الشركات نفسها مجبرة على العمل بنفس الطريقة وهو ما
يعتبر مناقضاً لكل قواعد الإدارة الاقتصادية الرشيدة المعروفة للجميع. فمن أجل رفع
أرباح الأسهم تقوم الشركات بالتخلص من العمالة ولا ترفع قيمة الرواتب وتخفض
الاستثمارات ومخصصات البحث، وتلجأ الشركات لنقل النشاط للدول النامية وعندما لا
تجد الشركات ما تفعله بعد ذلك تقوم بتزوير الحسابات (مثال شركة إنرون الأمريكية).
لا تستطيع الشركات الكبرى رفع حجم مبيعاتها طالما كان حجم الدخول المخصصة
للاستهلاك تشهد ثباتاً في معدلات الزيادة أو تراجعاً فتلجأ للاندماج عبر شراء
الشركات المتعثرة لتكبر من حجمها، وكثيراُ ما تستدين بما يفوق طاقتها وكل ذلك من
أجل إرضاء المساهمين وزيادة أرباح المدراء (وفقاً للإحصائيات فإنه منذ ثلاثين عاما
ً كان دخل المدير في الشركات الكبرى الأمريكية يساوي 40 مرة الموظف صاحب أقل دخل،
وصلت تلك النسبة اليوم إلى 3000 ضعف).
وعندما يصل التضخم في سوق الأوراق
المالية إلى مستوي معين يبدأ الانهيار مع العديد من الأزمات، والأمثلة عديدة؛
المكسيك، جنوب شرق أسيا، روسيا، البرازيل، الأرجنتين، تركيا … الخ. وعندما يبدأ
المستثمرون في سحب أموالـهم لتلافي الأزمة و إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تنهار أسعار
العملة الوطنية لينهار الاقتصاد وتزداد البطالة والفقر. وقد شهدت بورصات الدول
المتقدمة ذاتها حالات من التصحيح الذاتي المهمة منها على سبيل المثال حالة انهيار
(الاقتصاد الجديد) والذي ضاعت معه مدخرات صغار المستثمرين. بما أن الاقتصاد
الحقيقي يعتمد بدوره على الأسواق المالية والتمويلية فقد تأثر بذلك الانهيار و من
ثم معدلات التشغيل والبطالة.
لقد أصبحت البنوك المركزية عاجزة عن
التحكم في الاستقرار النقدي نتيجة للمضاربة، وأصبحت الأسواق المالية هي التي تحدد
رفع أو خفض سعر الفائدة و في حالة عدم أتباع ما تفرضه الأسواق المالية من قبل
البنوك المركزية، فإنها ستدفع لانهيار قيمة العملة الوطنية. ومن ثم أصبحت الحكومات
اليوم مجبرة على إتباع تعليمات السوق.
وفى الغالب والأعم، فإن الأسواق
المالية والتمويلية ليست خاضعة للضريبة ولا يحكمها قوانين صارمة مثل تلك التي تحكم
الاقتصاد الحقيقي، في حين أن هذا الأخير مكبل بالضرائب والقوانين الصارمة. وتري
الكثير من الحركات المضادة للعولمة أن المضاربة بكل أنوعها على الصعيد العالمي هي
النتاج الفعلى لسياسات العولمة المنفذة لنظريات الرأسمالية الجديدة التي تبحث لرأس
المال على أعلى معدلات ربح حتى لو كان ذلك على حساب النشاط الإنتاجي و الممارسات
الاقتصادية المنتجة، وتعد المضاربة على العملات من أهم النشاطات في اقتصاديات عصر
العولمة (حوالى 1500 مليار دولار في اليوم) وما تمثله من خطر على اقتصاديات الدول
وأثرها على مستويات البطالة والتشغيل.
يستطيع المضاربون على أسعار الصرف خلق
أزمة في الأسواق المالية والاستفادة منها في نفس الوقت، هذا بالإضافة للفوائد
الجمة التي قد تعود عليهم من المضاربة على العملات. وقد أدرك الاقتصادي الأمريكي
الشهير جيمس توبين والحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد خطورة المضاربة على العملات
الوطنية من قبل، وأوضح مدي خطورتها على اقتصاديات الدول، وأقترح حينئذ فرض نسبة
متحصلة (عمولة) على كل عملية تبادل للعملة من أجل الحد من عملية المضاربة. ويقترح
مؤيدو تلك العملية أن تتراوح النسبة بين واحد من عشرة وواحد من مائة، على أن تفرض
تلك العمولة أو الضريبة على عمليات المضاربة فقط التي تتسم بالتكرار و في الكثير
من الحالات بالبيع والشراء من وإلى العملة التي يتم المضاربة عليها في نفس اليوم
وبمبالغ كبيرة. لكن لم يتبنى أحد ضريبة توبين تحت دعوى أن السوق ينظم نفسه
تلقائياً ولا يجب أن يتم أي تدخل خارجي في ميكانيزمات السوق، ولكن من بعد تعاقب
الأزمات المالية في دول العالم و لعب المضاربات دوراُ كبيراً في تعميق الأزمة عادت
من جديد الدعاوى من أجل تطبيق ضريبة توبين على عمليات المضاربة على العملة، وكان
على رأس من نادي بذلك جريدة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية ومنظمة أتاك الفرنسية
(التجمع من أجل ضريبة على المبادلات المالية والنقدية لصالح مساعدة المواطنين).
لن يقتصر دور تلك الضريبة فقط على الحد
من المضاربة بل سيمتد لمساعدة المواطنين ذوى الدخل المحدود على تحمل أعباء الحياة،
ويري المطالبون بتطبيق هذه الضريبة أنه من خلالـها يمكن محاربة الآثار السلبية
للعولمة. فبجانب القدرة على الحد من المضاربة على العملات وما لـها من أثار مدمرة
على العمليات الاقتصادية في الدول النامية يمكن توجيه جزء مهم من حصيلة الضريبة
تلك إلى الدول النامية لمساعدتها على تلافي الآثار السيئة للعولمة؛ حيث يمكن منح
إعانات أو حتى توجيه استثمارات للدول التي تطبق نظام الحد الأدنى للأجور على
المستوي القومى، أو تلك التي تمنع عمالة الأطفال وتلك التي تحترم البيئة و تحرز
تقدماً في خفض نسب التلوث ... الخ.
ويعارض البعض ضريبة توبين تحت دعاوى
صعوبة تحصيلها، ولكن هذا غير صحيح حيث أن القائمين على عمليات تبادل العملة يحصلون
عمولة لصالحهم مع كل عملية تبادل للعملة، وهم قادرون على إضافة نسبة الضريبة
لعمولتهم كما أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات يتيح فرصة تحصيل الضريبة وقت
التفاوض على أسعار التبادل كما هو في حالة التفاوض على مبالغ كبيرة بين البنوك
ومكاتب الصرافة. ومن الممكن أن تتنوع قيمة الضريبة بين الارتفاع والانخفاض وفقاً
لمدي الانهيارات الحادثة في قيمة العملة. ويحدد ذلك البنك المركزي للدولة صاحبة
العملة التي يتم المضاربة عليها. وتعد هذه الضريبة وسيلة لمساعدة البنوك المركزية
على إعادة التوازن لسعر العملات بدلاً عن التدخل في أسواق التبادل باستخدام رصيد
تلك الدول من العملات الأجنبية، ووقوعها في الكثير من الحالات تحت رحمة المنظمات
التمويلية الكبرى وخروجها مدينة من كل أزمة نقدية.
قوى
العولمة:
(1) الشركات المتعددة الجنسية أو العابرة للقوميات، (2) المؤسسات
الاقتصادية العالمية، (3) الحكومات، (4) الحركات الاجتماعية
الشركات المتعددة
الجنسية أو العابرة للقوميات (multinationales, transnationales, CTN): لعل أهم ظاهرة شهدتها نهاية القرن هي
ظاهرة تعدد قومية المؤسسات الاقتصادية الواحدة، أو انتشارها واشتغالها عبر قوميات
متعددة. دفعت الشركات المتعددة القوميات بالخطوات الأساسية لنشوء العولمة، وذلك من
خلال قيامها هي نفسها بعولمة عمليات انتاجها وتوزيعها. وفي سياق ذلك دفعت هذه الشركات
بالحكومات إلى اعتماد قوانين وتشريعات هدفها جعل السوق هي المسؤولة عن انتاج
وتوزيع الثروات العامة.
ثمة اليوم في العالم حوالي 40000 شركة
متعددة الجنسية، منها 4000 آلاف فقط في البلدان الأقل تطوراً. ويفوق الوزن
الاقتصادي لهذه الشركات وزن بعض البلدان المتطورة. ففي العام 1968كانت شركة جنرال
موتورز (General Motors)، وهي في
المرتبة 18، تفوق بقدرتها الاقتصادية ألمانيا الشرقية وبلجيكا وسويسرا. وفي العام
1982، كانت شركة كاناديان باسيفيك (Canadian Pacifique) تساوي نيوزيلندا بحجم أعمالها البالغ 12.3
مليار دولار. وفي العام 1993، كانت شركة إكسكون (Exxon)، بمبيعاتها السنوية البالغة 111 مليار دولار
أميركي، تملك ثروة تعادل ثلاث أضعاف الناتج الخام لإيرلندا.
لا تقتصر أهمية هذه الشركات على وزنها
الاقتصادي فحسب، بل تعود أهميتها أيضاً إلى وزنها السياسي. ويتعاظم بسرعة التدخل
المباشر لمجموعات وجمعيات رجال المال والأعمال، كمستشارين، في المفاوضات التي تجري
على المستوى الدولي والإقليمي. ويتجلى هذا الدور والتأثير في المؤسسات العالمية
لرجال الأعمال، مثل غرفة التجارة العالمية، وفي المنظمات الإقليمية والمحلية. كما
تظهر هذه الأهمية في المجموعات الضاغطة، ومراكز التوجيه الاقتصادي والسياسي:
مؤسسات الإنتاج الفكري والدراسات والأبحاث…
المؤسسات
الاقتصادية العالمية: تلعب بعض المؤسسات والمنظمات الاقتصادية
العالمية والإقليمية دوراً كبيراً في مسار العولمة الراهنة. وهذا ما يطرح علينا
إفراد موقع خاص بها في إطار فهم العولمة. ولفهم أهمية هذه المؤسسات لا بد لنا من
وضع لائحة شاملة بها. يأتي في رأس هذه اللائحة بعض أكبر المنظمات الاقتصادية العالمية،
مثل البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (Banque
Internationale de Reconstruction et de Développement BIRD) وغيره من
الأجهزة المعروفة باسم البنك الدولي (Banque Mondiale BM) وصندوق النقد الدولي (Fonds
Monétaire International FMI)، وقد تأسس هذان
الجهازان، في العام 1944، إثر مؤتمر بريتون وود (Bretton
Woods)، وكذلك منظمة التجارة
العالمية (Organisation Mondiale du Commerce
OMC) التي تأسست عام 1994
لتحل مكان منظمة الغاة (GATT) التي نشأت عام
1944.
تأتي، بعد ذلك، منظمات اقتصادية
إقليمية، يقتصر نشاط البعض منها على قارة معينة أو إقليم ما. مثل لجنة الأمم
المتحدة الخاصة بأميركا اللاتينية والكاراييب (Commission
pour l'Amérique Latine et la Caraїbe CEPALC) وبنك التنمية
عبر أميركا (Banque Iteraméricaine de
Développement BID) اللذان يلعبان
كلاهما دوراً فاعلاً في عملية توحيد المناطق الأميركية.
أخيراً
ثمة منظمات اقتصادية إقليمية تجمع بلداناً تتصف بتجاذبات اقتصادية موضوعية، على قاعدة القدرات الاقتصادية، كما
هي حال منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (Organisation
de Coopération et de Développement Economique OCDE) التي تضم 29
عضواً منهم 27 من أكثر البلدان تطوراً، بالإضافة إلى تركيا والمكسيك. ويجب أن نضيف
إلى ذلك مجموعة، هي ليست منظمة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها تلعب دوراً محدداً
في تعيين مسار اقتصاد سياسي مشترك بين المشاركين في مؤتمراتها السنوية، نقصد بذلك
لقاءات السبعة الكبار (G-7)، أي مجموعة
البلدان السبعة الأكثر تطوراً التي تضم أحياناً مندوباً عن الاتحاد الأوروبي
والرئيس الروسي، وهذا ما يجعلها مجموعة الكبار السبعة + 2 (G-7
+ 2)، وأحياناً الثمانية
الكبار (G-8).
بالإضافة إلى هذه المنظمات الاقتصادية
الطابع، ثمة سلة واسعة من المنظمات
طابعها سياسي، وتلعب دوراً كبيراً في مسار العولمة. في طليعتها تلك المنظمة
الكونية، منظمة الأمم المتحدة (Organisation des
Nation Unies)، وجملة منظمات إقليمية
مثل منظمة الدول الأميركية (Organisation des
Etats Américains OEA). وثمة أيضاً أجهزة واسعة التأثير
ليس لها سمات المنظمة، ولكنها عبارة عن ملتقيات دورية أو شبه دورية، مثل ملتقى
دافوس.
الحكومات: من قوى العولمة الأساسية الحكومات
(الدول، الأنظمة) التي تطبق السياسات الاقتصادية الكبرى المحددة، بشكل عام، داخل
المؤسسات الاقتصادية الكبيرة التي تكون منضمة إليها، وحيث تمارس البلدان المتطورة
دوراً راجحاً. قد تكون هذه الحكومات (الدول الأنظمة) من البلدان المتطورة فتطبق
هذه السياسات العالمية طواعية أو برغبة منها؛ كذلك هي حال بعض البلدان غير
المتطورة التي تسير على خطى الحكومات الأول، مثل تشيلي والمكسيك؛ كما تطبقها مرغمة
الحكومات الأخرى.
بعض هذه السياسات الاقتصادية، مثل
سياسات التجارة والاستثمار وإلغاء التعريفة الجمركية، تكون موضوع مفاوضات بين
شركاء تفاضليين يوقعون اتفاقات تسمى "إقليمية" وتكون في حقيقتها اتفاقات
بين بضعة دول. وهكذا افتتحت الولايات المتحدة هذا التوجه بتوقيع أول اتفاق ثنائي
مع إسرائيل عام 1985، ثم أعقبه اتفاق ثنائي آخر مع كندا عام 1989، ثم اتفاق ثلاثي
ضم المكسيك عام 1994، وعرف باسم اتفاق التبادل الحر بين بلدان أميركا الشمالية Accord
de libre-échange nord-américain ALENA. وفي كانون
الأول من نفس العام وجه البيت الأبيض دعوة لعقد القمة الأولى لرؤساء دول وحكومات
البلدان الأميركية للشروع في محادثات لتأسيس منطقة للتبادل الحر في أميركا Zone
de libre-échange des Amériques ZLEA ، تضم 34 شريكاً
من الأميركيتين بدون كوبا، وذلك في اتفاقية مرشحة للتطببق في العام 2005، وهي باسم
اتفاقية التبادل الحر في البلدان الأميركية Accord
de libre-échange des Amériques ALEA .
تنطوي حالياً المفاوضات من أجل إقامة
مناطق التبادل الحر على تنازلات من قبل الأطراف (الحكومات) دون وضع شعوب هذه
البلدان في حقيقة الرهانات والنتائج المترتبة عليها. تشير هذه المسألة إلى ظاهرة
خطرة في تقرير مصير الشعوب التي تعيش في ظل أنظمة حكم تسمي نفسها ديمقراطية.، بدأت
هذه الظاهرة بالانتشار من البلدان الأميركية، حيث يتم ترويج هذه الاتفاقيات على
أنها ديمقراطية لأن الحكومات تقرّها بعد جولات تفاوضية. ولكن هذه الديمقراطية هي
مجرد "ديمقراطية بين الأجهزة التنفيذية" (الحكومات) التي تنتحل صفة
تقريرية في منح امتيازات وتنازلات لا تراجع في تقريرها لا شعوبها ولا حتى السلطات
التشريعية في بلادها.
وفي معظم الحالات لا تعلم السلطات
التشريعية بغير نتائج المفاوضات وما ترتب عنها من تنازلات. فضلاً عن أن السلطات
التشريعية غالباً ما تصدق على نصوص هذه الاتفاقيات كما هي وبعد إبرامها. وهذا ما
يجعل كل سياق التفاوض وتصديق الاتفاقيات على درجة كبيرة من تراجع الحياة
الديمقراطية. وأسطع برهان على تراجع الديمقراطية يبدو لنا في حقيقة أن الأحزاب
السياسية التي تتخذ مواقف متناقضة من مسألة "التبادل الحر" تقوم
الحكومات المنبثقة عنها بالسير على نفس خطى الحكومات السابقة، وهذا ما حصل في
الولايات المتحدة الأميركية مع الديمقراطي كلنتون الذي اعتمد وتابع مشروع الجمهوري
بوش؛ وكذلك كان الأمر في كندا حيث استأنف رئيس الوزراء كريتيان سياسة سلفه
مولرونيه، وذلك بعد أن كان كريتيان رئيس المعارضة لسياسة سلفه. وما يشير بدرجة
أوضح إلى تراجع الديمقراطية حقيقن أن الحكومات لم تعد تستند، في وجودها
واستمرارها، إلى شعوبها وناخبيها، بقدر استنادها إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية
أو الشركات العملاقة.
ولكن هذه الحالة في تعاظم العولمة وتراجع الديمقراطية
استدعت، كرد فعل عليها، مبادرة اتخذتها الجمعية الوطنية في كيبك بدعوتها إلى عقد
المؤتمر الأول لبرلمانيي البلدان الأميركية في العام 1997، بما في ذلك كوبا. وكان
من أبرز موضوعات هذا اللقاء البرلماني هو دور البرلمانيين في مواجهة تعاظم الدمج
الاقتصادي للقارة الأميركية، كما تمارسه الحكومات. وأدان البيان الختامي للقاء
مسار هذا الدمج.
الحركات الاجتماعية: تأتي الحركات الاجتماعية
بمثابة القوة الأخيرة من قوى العولمة. وإذا كانت هذه هي القوة الأضعف والأقل
تأثيراً فهي القوة الأكثر عدداً. ونقصد بالحركات الاجتماعية تلك الجماعات
والمنظمات والجمعيات التي ندخلها عادة تحت اسم منظمات المجتمع الأهلي، هذه العبارة
الملتبسة التي بات متعارفاً أن القصد منها هو الإشارة إلى الأفراد والمنظمات
النقابية والجمعيات الثقافية والبيئية وخلاف ذلك.
إن البعض من هذه الحركات الاجتماعية شرع
منذ زمن طويل في مواجهة مسألة تجاوز اتفاقيات التبادل الحر لحقوق الشعوب
والمجتمعات، وتعديها على السياسات المحلية وتدخلها في العلاقة بين مستويات السلطات
وأجهزتها. وكانت النقابات في طليعة هذه الحركات الاجتماعية، ولعبت دوراً أساسياً
مما اضطر الحكومات وبعض المنظمات الدولية إلى العودة والوقوف على رأيها في الكثير
من المسائل.
لقد تعززت في السنوات الأخيرة الصلات
الدولية بين هذه الحركات، وباتت أكثر تنظيماً، بغية تبادل المعلومات وصياغة مواقف
مشتركة وتوحيد المطالب وبلورة استراتيجيات عمل موحدة. كما أن الاجتماعات الدولية
التي يعقدها ممثلو الحكومات مع ممثلي الرأسمال العالمي الكبير لتقرير مصير الكرة
الأرضية وشعوبها، باتت مترافقة أكثر فأكثر مع اجتماعات موازية يعقدها ممثلو
المنظمات الشعبية والنقابية وحركات النساء وسائر المنظمات غير الحكومية وحركات
حماية البيئة. وكان منها لقاء سانتياغو في تشيلي في نيسان 1998، بموازاة القمة
الثانية لرؤساء دول وحكومات أميركا. ولقد أرست قمة شعوب أميركا أسس محالفة اجتماعية
على مستوى القارة الأميركية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
شركنا برايك ووجهة نظرك