الدولار بين الماضي و الحاضر
إن تناول عملة الدولار يستوجب أن تناول الجذور الأساسية لهذه العملة و كيف انتشر على ربوع العالم ، إن أول البوادر التي جعلت هذه العملة عالمية ، هي إرساء النظام العالمي ، الذي رأى النور و أرست دعائمه اتفاقية بريتون وودز عام 1944 ، و هو النظام الذي تمكنت من خلاله الو . م . أ أن تجعل الدولار الأمريكي العملة الدولية ومصدر السيولة العالمية نظرا لالتزامها بقابلية تحويله للصرف ذهبا على أساس ثابت ، هذا النظام أستطاع أن يحقق الاستقرار في أسعار الصرف ، وتوفير السيولة الدولية ،و إيجاد نظام متعدد الأطراف للمدفوعات الدولية ( خاصة السوق النفطية و المعاملات التجارية ) .
كما لعب هذا النظام إبان سنوات تطبيقه الناجحة في 40 و 50 و حتى النصف الأول من الثمانينات دورا مهما في خدمة توسع الرأسمالية الأمريكية خارج حدودها ، و يعود السبب لخروج الو م أ منتصرة في الحرب العالمية ، و بكامل قوتها الاقتصادية ، على عكس أوربا التي دمرتها الحرب فأصبح الدولار سيد العملات بلا منازع ، في ظل هذه الظروف قامت أمريكا باقتراح خطة مارشال و التي عرفت باسم برنامج الإنعاش الأوربي ، وهو عبارة عن قروض مقدمة لهذه الدول من أجل النهوض باقتصادياتها و ترميم ما خلفته الحرب .
ما لبث انتشار الدولار في الدول الأوربية حتى أصبحت هذه الأخيرة تتخلص منه و ذلك بالحصول على مقدار ما تحوزه من دولار ذهنا من الو م أ ، هذا التصرف من قبل الدول الأوربية جعل الو م أ تلغي قاعدة قابلية تحويل الدولار إلى ذهب خوفا من نفاذ احتياطاتها من الذهب و عجزها كذلك عن تغطية كمية الدولار المتداول خارج حدودها ، و في ظل هذه الظروف أعلن الرئيس نيكسون سنة 1971 التوقف عن العمل بقاعدة تحويل الدولار إلى ذهب .
كما لاننسى عامل آخر ساهم و ساعد على انتشار هذه العملة ، وهي أسعار النفط الزهيدة ، و هو يعتبر من أهم العوامل التي ساهمت بشكل كبير في نمو الرأسمالية ، خاصة زمن احتكار الشركات النفطية المعروفة في ذلك الوقت بالشقيقات السبع ، و كما قال الراحل هواري بومدين مقولته الشهيرة حول أسعار النفط " أنه لأكثر من عشرين عام الدول المصدرة للبترول قد مولت التنمية الصناعية الغربية" .
كما ساهمت آلية أخرى في إرساء الدولار على ربوع العالم و هي صندوق النقد الدولي و البنك العالمي ، حيث كان لهما دور بارز في رسم السياسات الأنسب للدول النامية التي كانت تسعى لتنبي إصلاحات هيكلية داخل اقتصادها ، وذلك من أجل الانتقال إلى النظام الرأسمالي ، وهي آلية أخرى لتعويم هذا النظام حول العالم .
كذلك عامل آخر لا يقل أهمية من عوامل نمو منظمة الإقتصاد الرأسمالي العالمي في عالم ما بعد الحرب و هو تزايد الإنفاق العام على القطاع العسكري و الحربي ، سواء بالنسبة للدول المنتجة للأسلحة بمختلف أنواعها ، أو بالنسبة للدول المستوردة لهذه الأسلحة ، كون أن الحربين العالميتين جعلت العالم يعيش في جو يسوده الشك و انعدام السلام ، وهو العامل الذي جعل الدول خاصة النامية تنتهج سياسة الإنفاق العسكري ، حيث أن جل الدول فاقت ميزانيات إنفاقها على الإنفاق العسكري من ميزانية إنفاقها في مجال البحث و التطوير .
هذا ملخص بسيط لانتشار عملة الدولار ، حاليا الو . م أ تعاني من أزمات داخلية و خارجية ، تتجلى بشكل واضح في الكوارث التي تحدق باقتصادها المنهار بشكل مستمر ، فالإدارة الأمريكية منذ سنوات ، وهي تلجأ إلى تغطية آثار هذه الكوارث بانتهاج سياسات نقدية عديدة ينتج عنها انخفاض في قيمة الدولار على أمل امتصاص العديد من مشاكلها الأخرى بناء على قناعة تقول أن موقع الدولار دوليا لن يتأثر نظرا إلى أنه لا توجد عملة بديلة تستطيع أن تلعب دور المقاصة الدولية في المعاملات التجارية الرئيسية ، و أيضا لعدم احتجاج اللاعبين الدوليين الرئيسين على توالي الانخفاض في قيمة الدولار ، كما هو الحال بالنسبة للصين التي تريد أن تحافظ على موقعها في سوق الاستهلاك الأمريكي ، و أيضا لعدم تجرؤ أحد على الاحتجاج كما هو الحال بالنسبة للكثير من الدول النفطية العربية التي تخشى تسعيرة نفطها بعملة بديلة حتى و لو ظلت تخسر المليارات .
إذا الدولار يواصل مسيرة الانخفاض نحو الهاوية مقترنا بقناعات أمريكية بان مركزه الدولي لن يتأثر ، إلا أن هذا الحال يطرح تساؤلا جوهريا ، هل مزال الدولار عملة العالم السائدة ( المقاصة الأهم ) أم انه أصبح شيئا من الماضي .
أحد أهم العناصر المشكلة للنظام المالي العالمي الدولار ، هيمنة الدولار بدأت تتزعزع انطلاقا من حقيقة أن هذا النظام نفسه صار يوفر بدائل ليست أقل جدارة بالثقة مثل اليورو الأوربي ، و الين الياباني و البوند البريطاني ، فضلا عن أن السلة التي تتضمن هذه العملات و غيرها صارت تشكل وسيلة متاحة لتغطية الكثير من التعاملات الدولية بأقل تضخم و أكثر حفظ للقيمة .
في المقابل فإن السياسات التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها النقدية و المالية قائمة على المراهنة بأن قوة الدولار لا تنبع من قيمته بل من عدم توفر أي إمكانية للانقلاب عليه و ظهور بديل ، و هو ما ينظر إليه الكثير من الخبراء على أنه الخدعة الأخيرة للدولار و التي تتمثل في زيادة الديون الأمريكية و خصوصا الخارجية منها ، حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي حدود 9.45 ترليون دولار ، فيما يقدر الدين الخارجي بحدود 5 ترليون دولار ، و تؤدي الديون دورا مراوغا لأنها تلزم الدائنين بإبقاء مساندتهم للدولار للحفاظ على قيمة ديونهم ، أي أن الو م ا بينما تعمد إلى طباعة المزيد من الورق الخالي من القيمة ، فإنها تعتمد على الدائنين أنفسهم لشراء المزيد من ذلك الورق ، وذلك لكي لا تنخفض قيمة ديونهم أكثر فأكثر ، و تشكل الصين و اليابان و دول جنوب شرق آسيا الدائن الرئيسي للو م أ ( أو المشتري الرئيسي للدولار ) ، فكلما احتاج الإقتصاد الأمريكي إلى سلع و خدمات لجا إلى الاستيراد من الخارج و دفع ثمنا لها دولارات لا تحمل قيمة أكثر من قيمة الورق ، لان البنك الأمريكي الفدرالي يغطي قيمة الدولار بسندات الخزينة التي تباع اغلبها إلى المستثمرين الأجانب ، أي أن الإقتصاد الأمريكي يحصل على سلع من الخارج و يدفع ثمنها بديون من أطراف أخرى في الخارج .
لقد استطاعت الو م أ في العقود الأخيرة توظيف عملتها و جعلها عملة العملات من خلال إضفاء القوة على هذه العملة من أجل عدم فقدان الثقة فيه لدى المستثمرين و كذلك بالنسبة لسندات الخزانة الامركية ، و بالتالي لم تظهر في تلك الفترة من طرف المحللين أو الإقتصاد ين أي شكوك أو احتمالات أن الدولار محاط ب هالة مزيفة ، و انه يجب إعادة النظر في استمرار تبنيه كعملة دولية ، و بذلك وقع الإقتصاد العالمي في فخ و خدعة ظهرت نتائجها واضحة كمايلي:
- إن كل من اشترى سندات الخزانة الأمريكية يعلم انه لا يمكن أن يتخلى عن الدولار كعملة دولية لان أمواله و استثماراته في السندات ستتهدد بالضياع في حال انهيار الإقتصاد الأمريكي و انهيار الدولار .
- إن كل من باع إلى الو م ا سلعا و حصل على دولارات هزيلة يعلم أن سقوط الدولار يعني ضياع إدخاراته و أرباحه التجارية .
- إن كل الدول التي تحتفظ بالدولار كاحتياطات و غطاء لعملاتها المحلية تعلم أن اقتصادها و عملاتها ستنهار مع انهيار الدولار .
لذلك يعيش الدولار اليوم على أوكسجين هذه الخدعة ، وما إن تنكشف هذه الخدعة سيلقى الدولار مصيره ، و بناء على هذا التحليل يمكننا أن ندرك لماذا تستثمر اغلب دول الخليج فوائضها المالية في الو م أ بنسبة تعادل 70 بالمائة من إجمالي استثماراتها ، حيث أنه من المتوقع أن تصل هذا العام (2008) إلى حدود 2 تريلون ، فزيادة الاستثمارات في الو م ا نابعة من قناعة أنه لابد أن تلعب تلك الدول دورا في إنقاذ الإقتصاد الأمريكي و عملته لأن احتياطات بعض دول الخليج مدخرة بالدولار ، و بالتالي فهي تساهم بشكل غير مباشر في حماية ثرواتها من التآكل ، خاصة و أن جل احتياطاتها مقومة بالدولار .
و بالعودة إلى تاريخ ظهور الدولار كعملة دولية ، نجد انه بعد الحرب العالمية الثانية و خروج معسكر الو م أ و حلفائها منتصرين و إعلان دعمها لمشروع إعادة بنا أوربا و هو ما يسمى بمشروع إعادة بناء أوربا و هو ما يعرف أيضا بمشروع مارشال الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي سابقا ، و الذي أعلنه في 5 جويلية 1947 في خطاب أمام جامعة هارفارد ، تم تأسيس هيئة أقامتها حكومات غرب أوربا للإشراف على إنفاق 17 مليار دولار أمريكي في إطار ما سمي منظمة التعاون الاقتصادي الأوربي ، و ذلك بحجة إعادة إعمار و تشغيل الإقتصاد و المصانع الأوربية .
كان هذا المشروع الانطلاقة الفعلية لجعل الدولار عملة العملات ، وذلك من خلال تقديم ديون من الو م أ إلى دول أوربا بالدولار مقابل الحصول التدريجي على الذهب الذي كان متوافرا لدى البنوك المركزية الأوربية ، و نتيجة لإدعاء البنك الفدرالي الأمريكي أن كل دولار مغطى بشكل كامل بالذهب ، شعرت الدول الأوربية بالثقة بهذه العملة وجعلت منها عملة لاحتياطاتها و أصبح الدولار بشكل أو بآخر يشكل آخر غطاء و رصيدا للعديد من العملات الأوربية التي خسرت الكثير من احتياطاتها الذهبية لسداد بعض الديون التي ترتبت عن مشروع مارشال .
و بناء على ذلك ظن العالم أن الدولار عملة تستحق أن تكون عملة العصر في تلك الفترة إذ كانت مغطاة بشكل كامل بالذهب ، و هي عملة المقاصة بين العملات و هناك قبول دولي عليها ، كونه هو نفسه غطاء للعديد من العملات ، لكن كمية الدولار التي كانت تطبعها الو م أ أقنعت الكثير من الدول بأن قيمتها لا تساوي قياسها بالذهب ، ومع انكشاف تلك الخدعة التي تمثلت بان الدولار لم يكن مغطى بالذهب بشكل كامل و أن مليارات الدولار التي أصبحت في أوربا ليست أكثر من ورق ،ولا تعادل نفس القيمة التي حددها البنك الفدرالي الأمريكي ، وعندما حاولت بعض الدول استرداد الذهب ببيع الدولار ،وجد البنك الفدرالي الأمريكي نفسه عاجزا على تحويل الدولارات التي طبعها بدون رصيد و غطاء ذهبي ، و بدأت مرحلة إعلان فصل الدولار عن الذهب حيث أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون بتاريخ 15/08/1971 أن قيمة الدولار تحددها قوة الإقتصاد الأمريكي نفسه ، الأمر الذي أجبر كل الدول و المستثمرين الذين يحملون الدولارات على أن يكونوا معنيين بقوة الإقتصاد للحفاظ على قيمة الدولارات التي تحولت عبئ على أكتافهم و صدق من قال ' سيصبح الدولار عملتنا و مشكلتكم انتم " .
منذ ذلك التاريخ لم يعد الدولار قابلا لتحويله إلى ذهب إلى بوصفه تعبير عن قوة الإقتصاد الأمريكي كما وصفه نيكسون " إن قيمة الدولار تكمن بذاته و بكونه أصبح عملة العملات و أصبح يملأ خزائن البنوك المركزية في العالم و لا احد يتجرا على النخلي عليه ، لأنه سيهدد عملات بلاده المحلية التي أصبحت مرتبطة بالدولار "
كيف خرج الدولار للوجود و كيف أصبح عملة العملات لا تستطيع الدول التنازل عليه ؟
اليوم يشهد الدولار موجة جديدة ، و تيار منافس له لان هناك العديد من العملات بدأت تحتل مكانا متزايدا في أسواق المال و في التبادلات التجارية و ثانيا لأن الانخفاض المستمر في قيمة الدولارات يدفع الكثير من البلدان إلى التخلص منها ، بشراء ما يمكن لها شراءه بالدولار من سلع و خدمات مثل الصين التي تشتري كميات كبيرة من النفط أكثر مما تحتاجه ، فالإضافة إلى ذلك أنها مضطرة إلى أن تواصل شراء و لو بكميات قليلة سندات الخزانة الأمريكية لكي لا يبدو الأمر و كأنه تخلي كلي عن الدولار ، الذي يمكن أن يدفع به إلى الانهيار التام ، فالصين و اليابان و دول جنوب شرق آسيا تحاول أن تبقيه طالما أنها تواصل تصدير سلعها و خدماتها إلى الو م أ بديون أو بدولارات مغطاة بسندات خزانة تدفع هي ثمنها ، و لكن هل سيأتي اليوم الذي تتجرا فيه هذه الدول على التخلي كليا عن الدولار .
تعلم الصين و اليابان و غيرها من دائني الولايات المتحدة الأمريكية أن التخلي عن الدولار يعني انهيار الإقتصاد الأمريكي و بالتالي ضياع ديونها و معها اقتصادياتها ، لكن مع إقرار بعض الدول أنها ستتخلى عن الدولار في معاملاتها الدولية أو في بيع النفط و الغاز مثل فنزويلا و إيران مما لا يدع مجال للشك أن الثقة في الدولار بدأت تنخفض ،خاصة مع الانخفاض المستمر في قيمته و الأزمة المالية التي يمر بها الإقتصاد الأمريكي ، بتعبير آخر الدولار لم يعد يحمل أي معيار من معايير العملة الدولية المتمثلة فيمايلي :
· حافظ للقيمة : الانخفاض المستمر في قيمته جعله يفقد هذه الميزة
· مقبول دوليا : التخلي التدريجي عن هذه العملة و جميع الدول بدأت في تنويع احتياطاتها
· وحدة قياس و مقاصة : إذا فقد المعيارين الأولين سيفقد الثالثة .
في ظل هذه المعطيات هل يمكن الجزم و الحكم على ان نهاية الدولار في طريقها ؟ الإجابة تحملها الأيام .
دعوة خير لصاحبكم
يرجى عدم نسخ الموضوع دون ذكر مصدره و اسم المدونة
RépondreSupprimer